منذ احتلال العراق عام 2003، وحكومات بغدادتواجه معضلة سياسيّة فرضت عليها عزلة دبلوماسيّة عربيّة. الغريب، أنّ المحيط العربي ذات الغالبيّة السنيّة، وهو نفسه الذي يصنّف نفسه «معتدلاً»، أو بكلام آخر، يضع نفسه في سلّة الرؤية الأميركيّة لمستقبل المنطقة وقضاياها، يرفض الاعتراف النهائي بشرعيّة حكومة عراقيّة قد لا تستمدّ شرعيّتها إلا من وجود الاحتلال
أرنست خوري
الرياض وعمّان والقاهرة... تلقّفت نظريّة ملك الأردن عبد الله عن «الهلال الشيعي» الذي يغزو المنطقة (من إيران إلى لبنان مروراً بالبحرين والعراق)، لتقرر مقاطعة حكومات بغداد. أيّ زيارة رفيعة من مسؤولي محور «الاعتدال العربي» لم تُسَجَّل إلى عاصمة الرشيد. ديون النظام السابق ألغتها موسكو، من دون أن يتكرّم العرب بالقيام بخطوة مماثلة. «وعود» العواصم العربيّة بقرب موعد افتتاح سفاراتها في العاصمة العراقيّة، لم تكن إلّا تأجيلاً لقرار التطبيع مع شيعة البلاد. نظرة ملوك العرب ورؤساؤهم إزاء الحكومة العراقيّة باتت تُختَصَر بكلمتين: تابع للفرس.
أمام هذه المشكلة، فشلت جهود المسؤولين العراقيّين في الضغط على الإدارة الأميركيّة، لتقنع حلفاءها العرب، بمسامحة رئيس وزراء بغداد على كونه وُلِِِد شيعيّاً. ومع تأكّد نوري المالكي وفريق عمله أنّه لا حول ولا قوّة للمساعي الأميركيّة في ذلك، قرّر التصرّف، على ما يبدو، من خلال حلفائه في «العمليّة السياسيّة»، من العرب السنّة والأكراد.
ثلاث مناسبات تظهر تفاصيل التكتيك العراقي الجديد: استقبال محمود أحمدي نجاد بحفاوة قلّ نظيرها. اجتماع الاتحاد البرلماني العربي الأسبوع المقبل في العراق، تحديداً في الإقليم غير العربي في بلاد الرافدين، وهو إقليم كردستان، في عاصمته أربيل. وأخيراً، الزيارة «التاريخيّة» التي يبدأها جلال الطالباني اليوم إلى أنقرة.
في زيارة نجاد، جانب «استفزازي» عبّر عنه الضيف كما المضيفون. استفزاز تأمل بغداد أن يكون إيجابيّاً، وأن يثير شيئاً من الغيرة عند العرب تجاه الاستقبال الفاخر والأموال الكثيرة التي رماها الرئيس الإيراني على شكل هبات وقروض ومشاريع تنمويّة. كيفما قُورِبت الزيارة، يبدو الجانب الاستفزازي واضحاً فيها: زورونا ولكم أحلى استقبال. عودوا إلى العمق العربي للعراق، وسترون أننا لا نزال في معسكر العروبة. عراقنا مليء بالثروات النفطيّة وبحاجة لإعادة الإعمار، فلمَ تتركون الساحة خالية للشركات الإيرانيّة والسوريّة، بينما أنتم الأقرب جغرافيّاً وسياسيّاً، وبما أنّ حليفنا واحد واسمه واشنطن؟
بينما في استضافة «دولة» مسعود البرزاني للبرلمانيّين العراب الأسبوع المقبل، جانب استدراجي. البرزاني لا ينتمي إلى القوميّة العربيّة، إلى حدّ أنّ بعض العرب يرونه صاحب نزعة شوفينية معادية للعرب والعروبة. هو، على سبيل المثال، رفض طوال سنوات، رفع العلم العراقي في إقليمه. لكن من مصلحة الرجل تقوية حليفه الرئيسي، المالكي، وخصوصاً عربيّاً. وكأنّ الرجل حين سيستقبل النوّاب العرب، سيقول لهم: إذا كنت أنا، غير العربي، أستضيف مؤتمراً لكم، فما بالكم تقاطعون عرب العراق؟
وفي السياق، تؤكّد صحيفة «الصباح» الحكوميّة في عددها أوّل من أمس، أنّ الموضوع الجدّي الوحيد الذي سيحتلّ نقاشات البرلمانيّين في أربيل، سيكون تفعيل الدور العربي الإيجابي في العراق، من خلال فتح السفارات والقنصليات والإسهام اقتصاديّاً وسياسيّاً في إعادة الإعمار و«المصالحة الوطنيّة».
أمّا في قبول الطالباني دعوة نظيره التركي عبد الله غول زيارة أنقرة، فتأتي، وإن في مدىً سياسيّ وجغرافيّ غير عربي، في الإطار نفسه من مصالحة العراق مع محيطه. الطالباني سيكون أرفع مسؤول كردي عراقي يزور رسميّاً حكّام أنقرة. زيارة لثلاثة أيّام، تحمل معاني فائقة الأهميّة. بالطبع، سيحتلّ موضوع حزب «العمّال الكردستاني» صدارة النقاشات. لكنّ هذا النقاش سيبقى «سياسيّاً»، بمعنى أنّه لن يتطوّر ليلامس الخطّة المطلوبة من بغداد لاحتواء «خطر» الحزب الكردي في شمال العراق. السبب في ذلك، أنّ المعركة الأخيرة بين الجيش التركي والحزب الكردي، وما رافقها من ملابسات الانسحاب المفاجئ للجيش، أظهر أنّ المستوى السياسي في أنقرة، لا علم له حتّى بالقرارات العسكريّة الكبرى التي يتّخذها الجيش.
أمام هذا الواقع، من المؤكّد أنّ الزيارة ستفتح أبواباً غير النافذة الكرديّة: العراق بحاجة ماسّة لتحويل الاستفادة التركيّة من نفطه ورؤوس أمواله وتجارته... إلى مصدر اطمئنان متبادل بين أنقرة وبغداد. سيحاول الطالباني تجيير براعته الدبلوماسيّة كلّها لإقناع تركيا بأنّ كردستان العراق لن تكون في يوم من الأيّام دولة تهدّد أمن تركيا. في المقابل، يريد أن تنتهي العنتريّات العسكريّة التركيّة في شمال بلاده... عنتريّات تحرجه أمام عمق شعبيّته الكرديّة، ليبقى للعراق «سويسرا» خاصّة به، أي كردستان، بقطبيها أربيل والسليمانيّة.
بين الأخذ والردّ، ستبقى الزيارة ناقصة: البروتوكول الدبلوماسي في زيارات الرؤساء إلى أنقرة لن تُطَبَّق مع الطالباني. رفض قادة المؤسّسة العسكريّة لقاءه، سيحول دون تكريمه في قصر شنقايا، وسيحرمه الاستماع إلى الطلقات المدفعيّة الـ21 على المطار، وهي المدافع التي عرفها جيّداً عندما كان لا يزال «مناضلاً» من أجل «حريّة كردستان». كما لن يُسمَح له بزيارة قبر أتاتورك في أنيتكبير. هو أتاتورك نفسه الذي سيتمنّى لو يُدفَن مرّة ثانية لو علم أنّه يوماً ما، زار كردي بصفة رئيس للعراق، أرض بلاده.