strong>طوني صغبيني
تهديدات بنسف منشآت الألعاب الأولمبية في بكين الصيف المقبل. خبر تناقلته وسائل الإعلام بشكل عادي؛ غرابته في مصدره، إنه تهديد من الداخل، إنه تنظيم «القاعدة» في الصين. الإجابة تقليدية، لكنها ليست مقنعة، والحصول على الجواب الكامل، يستلزم الذهاب إلى أقاصي بلاد التنين الآسيوي بحثاً عنه

على الجهة الشمالية من سفوح الهمالايا، حيث تلتقي أطراف الصحراء الجافة في هضبة التيبيت مع المناطق الوعرة في طاجيكستان وباكستان وأفغانستان والهند، تمتد سلسلة من القرى والمدن الصغيرة، ترتفع فيها المآذن، يلتحي الرجال والأطفال، يتعلمون القرآن: إنها دولة تركستان الشرقية سابقاً، محافظة كسينغيانغ الصينية حالياً، وطن الويغور المسلمين.
لهذه المنطقة تاريخ طويل من الاضطراب السياسي والاجتماعي، لاحت بوادره الأولى مطلع القرن الماضي، حينما بدأ الويغور، وهم الأكثرية الساحقة من السكان وقتها، بالمطالبة بالاستقلال، الأمر الذي تحقق بعد فترة قصيرة تحت اسم «جمهورية تركستان الشرقية»، بين عامي 1933 و1944، في وقت احتدمت الحرب الأهلية الصينية بين الكيومنتانغ والحزب الشيوعي. وبعد إحكام الطوق الأحمر على بكين، انتهت الجمهورية، وتحوّلت إلى مقاطعة صينية.
في ظلّ حكم ماو تسي تونغ، خضعت المنطقة لعملية تحوّل إجبارية، ديموغرافية وثقافية، فتدفق آلاف المستوطنين ـ الجنود من إثنية الهان (اليوم تبلغ نسبة الويغور في إقليمهم نحو 50 في المئة من السكان). وأحكمت الأيدولوجيا الشيوعية قبضتها على الإقليم. بعد فترة طويلة من الاستقرار الهشّ، تجددت انتفاضة الويغور أوائل التسعينيات، وشاركهم فيها القرغيزيون والكازاخستانيون في الإقليم، بعدما أفسح الانفتاح الصيني المجال أمام إعادة اتصال الأقلية المسلمة مع الامتداد الإسلامي في آسيا الوسطى.
في عام 1996 أطلقت بكين حملة للجم المطالب الانفصالية تحت اسم «اضرب بقوة»، ولم يعلن رسمياً عن انتهائها حتى اليوم، ووسّعت بموجبها صلاحيات الشرطة والأجهزة الأمنية في الإقليم، واعتُقل الآلاف من دون محاكمات، وسجن مئات الناشطين السياسيين والزعماء الدينيين، كما أُغلقت المدارس القرآنية ومُنع بناء الجوامع، ونُفذت إعدامات في الساحات العامة.
ازدادت الحملة الصينية ضراوة في ظلّ تصاعد الدعوات الاستقلالية، وفي إحدى التظاهرات في غوليا في شهر رمضان عام 1997، فتحت الشرطة النار على الجمهور فسقط 167 قتيلاً ومئات الجرحى، واعتقل 5000 شخص في يوم واحد، بتهمة «العمل على تقسيم الوطن، والقيام بنشاط ديني أصولي، والتحول إلى أعداء للثورة (الشيوعية)».
وبين عامي 1997 و1999، أُعدم نحو 190 ناشطاً في الإقليم بحسب تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام 2000.
في هذا الوقت، كانت الحركة الإسلامية في آسيا الوسطى تكتسب زخماً جديداً مع سيطرة «طالبان» على الحكم في أفغانستان، الأمر الذي فتح آفاقاً جديدة لبعض الأطراف الويغورية في الداخل.
وقدّمت هجمات 11 أيلول 2001 فرصة جديدة لبكين لتقوية سيطرتها في المنطقة، فأعلنت أن «حركة شرق تركستان الإسلامية» المسلحة، وهي حركة ويغورية صغيرة وهامشية، لها صلات مع «القاعدة»، وأنها تحوّلت إلى جزء من «الجهاد العالمي» أو«الهازات» بالويغورية. ودعّم الحكم الشيوعي فرضيته بوجود أعداد كبيرة من الويغوريين تدربوا في المعسكرات الأفغانية والباكستانية، وزعمت أنهم عادوا إلى الصين وأسسوا خلايا إرهابية نائمة.
هذا الاتهام أمّن لبكين غطاءً دولياً لحملتها في المقاطعة، إذ أعلنت واشنطن وضع الحركة الإسلامية على لائحة المنظمات الإرهابية، وهو ما عنى إطلاق يد السلطات الصينية في الإقليم.
دخول «القاعدة» على الخط، شكّل معضلة جديدة أضيفت إلى جملة التعقيدات التي تنغّص حلم الويغور. فالمقاطعة التي تشكّل وحدها سدس مساحة الصين، غنية جداً بالموارد الطبيعية، ولا سيما النفط. بالإضافة إلى أن موقع كسينغيانغ الجغرافي وسط آسيا ووصله الصين بباكستان وأفغانستان وغيرها من دول آسيا الوسطى، يعطيه أهمية جيوسياسية كبرى للعملاق الآسيوي.
لكن السبب الأهم على الإطلاق وراء التشدد الصيني، يكمن في تركيبة الجمهورية الشعبية المحاصرة بالانفصاليين من كل جهة: تايوان على الساحل الشرقي، التيبيت في الوسط، منغوليا في الشمال، وكيسنغيانغ في أقصى الغرب، بالإضافة إلى المدن الساحلية الغنية المتبرّمة من تحمل مسؤولية الداخل الفقير. وأي تنازل من بكين على أي جبهة انفصالية قد يؤدي إلى تفككها بشكل مأساوي.
ولعلّ اجتماع عام 1998 الشهير في تايوان كان جرس إنذار للحكم الصيني من مخاطر تحوّل الحركات المنعزلة إلى انتفاضة انفصالية كبرى، حيث ضمّ اللقاء، بالإضافة إلى قادة الجزيرة المنشقّة، وجوهاً بارزة في الحركة الويغورية، وشقيق الدالاي لاما ثوبتين يجمي نوربو، وأعضاء سابقين في الحكومة التيبيتية في المنفى، وممثلين عن أحزاب منغولية معارضة لبكين.
وما يزيد تعقيد الوضع في كسينغيانغ هو تشتت الحركة الويغورية، وانقسام مطالب السكان بين المنادين بإعادة تأسيس «دولة تركستان الشرقية»، والداعين للحفاظ على الحقوق الثقافية ضمن استقلال تحت حكم بكين.
ويزيد المناخ الدولي غير الداعم لحركة الويغور من صعوبة تحقيق مطالبهم، وسط مخاوف من تدهور العلاقة مع عملاق اقتصادي وسكاني صاعد يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى قطب سياسي عالمي.
«أمثولة إقليم كوسوفو» المستقل حديثاً، أعطت الويغوريين دفعاً جديداً، وارتفعت رهاناتهم على الحدث الذي سيخطف الأضواء عام 2008: الأولمبياد ـ الفرصة التي لن تتكرر لطرح قضيتهم للمرة الأولى على مستوى الرأي العام العالمي من داخل الصين نفسها خلال البثّ الحي للمباريات الرياضية، بالإضافة إلى الجهود الخارجية التي تقوم بها الجالية الويغورية، كجولة السجينة السياسية السابقة ريبيا قدير بمشاركة الدالاي لاما والمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ.
أصوات الويغوريين ستصل حتماً إلى مسامع المجتمع الدولي، لكن الجانب الآخر من الدرس الكوسوفي يؤكد أن الصوت لا يكفي. ولعلّ إعلان وزارة الخارجية الصينية الأسبوع الماضي عن تخطيط الانفصاليين لشنّ هجمات على الألعاب الأولمبية، هو الدليل الأكبر على ذلك، حيث قد تنقلب «خدعة أولمبياد بكين» التي يعوّل عليها الويغوريون، إلى مبرّر جديد لاستئناف الحملة على الإقليم.