ربى أبو عموحتى هذه اللحظة، لم يحسم التاريخ قضية ملكية التيبت أو «أرض الرهبان» أو «سقف العالم»، (لأنها من أعلى المناطق في العالم)، أهي لأهلها أم تابعة للصين، التي تؤكّد أنها جزء لا يتجزأ من أراضيها. وأكثر من ذلك، ترى بكين أن الشعب التيبتي واحد من «خمسة أجناس» صينية. إلاّ أن أرض الرهبان ترفض الرواية الصينية، وترى أنها سعت دائماً إلى التدخّل في شؤونها.
يرى الرهبان أن أوّل دولة تيبتية موّحدة تأسست في القرن التاسع عشر في كنف الامبراطور سونج استن جامبو لمدة ثلاثمئة عام، تمكّن خلالها من السيطرة على العاصمة الصينية تشان، قبل توقيع معاهدة سلام بين الطرفين. إلاّ أنها بقيت عرضةً للتدخل الصيني الدائم بين عامي 1720 و1912، ليتمكن الدلاي لاما الثالث عشر من إعادة استقلالها الكامل بعد عام.
وبعد نحو 27 عاماً، شهدت التيبت هجوماً صينياً، انتهى بتوقيع اتفاق بين البلدين عام 1951، تضمّن موافقة التيبت على أن تصبح جزءاً من الصين، مقابل ألاّ تتدخل الأخيرة بأي إجراءات من شأنها تغيير حضارة «سقف العالم» وتقاليده، أو المساس بمكانة الدلاي لاما. ولما لم تفِ الصين بوعودها، كانت الانتفاضة المسلّحة ضدّها والتي قمعتها السلطات الصينية، وانتهت بهروب الدلاي لاما إلى الهند عام 1959. تبعت ذلك حملة اضطهاد أودت بحياة ما يزيد عن مليون مواطن من أهل البلاد، فضلاً عن تدمير معابدهم وأديرتهم ورموزهم الثقافية والدينية.
وفي عام 1959، انتقل «مصغّر» من التيبت إلى مكان آخر. إذ أسّس الدلاي لاما حكومة التيبت في المنفى على مبادئ الديموقراطية الحديثة في الهند.
إذاً، تمثّل قضية التيبت، التي يمكن اختصارها بشخص الدلاي لاما، قوة ضغط أميركي ضد الصين. فمن جهة، تكفل الشرعة الدولية حق تقرير مصير «سقف العالم»، ولا تستطيع أي حكومة حرمانها من هذا الحق. ومن جهة أخرى، فإن عدداً كبيراً من الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان تشير إلى مقتل أكثر من مليون تيبتي جراء الاضطهاد السياسي والسجن والتعذيب والمجاعة. ويمثّل هذان العاملان، إضافة إلى عوامل أخرى، حجّة أميركية لتطبيق نظريتها حول الديموقراطية، وبالتالي وضع سلاسل حديدية حول النفوذ الصيني الذي يهدّد امبراطوريتها.
وتجلّى هذا الضغط الأميركي على الصين، من خلال استقبال بوش الدلاي لاما أو «الشيطان» كما تصفه بكين، في الصيف الماضي، وعدّت الأخيرة ذلك بمثابة خطوة استفزازية. ولم يكتف الزعيم الروحي للتيبت بهذه الزيارة، بل توجه إلى ألمانيا ودول أخرى، بهدف الحصول على دعم لاستقلال دولته.
ربما يدرك بوش أن استقلال التيبت أكثر تعقيداً من قضية إقليم كوسوفو. فالمقاربة تصل إلى الصراع الحقيقي بين واشنطن وبكين، لذا لا يمكن إسقاط الظروف التي رافقت استقلال الإقليم على التيبت. فالصين أو «العملاق النائم» كما وصفها نابوليون، لا تقبل خسارة كهذه، وخصوصاً أن لها رؤيتها المختلفة. إذ تملك التيبت أكبر احتياطي يورانيوم في العالم، ويتم نقل جميع المصادر المعدنية الموجودة فيها إلى الصين مباشرة. وبحسب الحكومة التيبتية في المنفى، يتوقع أن تنفد 10 معادن من مجموعة الـ15، وهي المعادن الرئيسية للصين خلال هذا القرن.
هذا العامل كفيل بجعل الصين ترفض عرض الدلاي لاما تحويل التيبت إلى منطقة منـزوعة السلاح، وتخلّيها عن سياسة توطين شعبها في أرض الرهبان، واحترام حقوق الإنسان وترسيخ الديموقراطية، والتوقف عن دفن النفايات النووية فيها، إضافة إلى المباشرة في مفاوضات رسمية لتحديد مستقبل أرض الرهبان. بمعنى آخر، تعارض الصين الاستقلال الذاتي للتيبت، وخصوصاً أنها تدّعي منح سقف العالم حكماً ذاتياً. ولكن على الصعيد العملي، تعدّ الصين بمثابة «الآمر الناهي».
والخطة الوقائية الأهم التي اعتمدتها بكين، تجلّت قي قصة الطفل جادهوم شوكاي المرشح لمنصب «البانشين لاما» أي خليفة الدلاي لاما، والذي تُتَّهم الحكومة الصينية باختطافه. ولعلّ أغرب طلب سياسي في تاريخ الدبلوماسية الدولية، هو الذي تقدّم به البرلمان الأوروبي إلى الصين الشعبية في 13 تموز عام 1995، لإطلاق سراح الطفل والسماح له ولأسرته بالعودة إلى قريتهما في التيبت.
الدلاي لاما هو «الإله التيبتي» الذي يتبناه الرئيس الأميركي المتديّن لحبس الأنفاس الصينية، بينما تتمنى الصين موت «الشيطان» لترتاح وتفرد قدميها على البساط العالمي بثقة، بعدما وضعت خليفته تحت سيطرتها.