strong>مياه الشفة المؤمّنة للعديد من الأميركيّين ملوّثة، لا بسبب النفايات الكيميائيّة أو التي تنتجها المصانع، بل برواسب الأدوية التي تستهلكها أمّة ارتفعت كميّة الوصفات الطبيّة الممنوحة لأبنائها بنسبة 12 في المئة خلال السنوات الخمس الماضية. الأميركيّون يستهلكون أدويتهم مرّتين: الأولى للعلاج والثانية للتسمّم!كشف تحقيق أجراه فريق من وكالة «أسوشيتد برس» على مدى 5 أشهر، عن أنّ مياه الشرب المخصّصة لأكثر من 41 مليون أميركي تحتوي رواسب أدوية تتنوّع بين مضادّات حيويّة ومضادّات للتشنّج ومهدّئات عصبيّة وهرمونات جنسيّة.
وتركّز هذه المواد في مياه الشفة ضئيل. يقاس بأجزاء من المليار أوّ حتّى الترليون، لذا فهي أقلّ بكثير من الوصفات الطبيّة. والمرافق العامّة، التي تؤمّن هذه المياه، تصرّ على أنّها صحيّة. غير أنّ وجود هذا التنوّع من الأدوية يزيد القلق لدى العلماء من مدى انعكاس ذلك على صحّة الأميركيّين.
المسؤولون في تلك المرافق قليلاً ما يكشفون عن نتائج الفحوص الصيدلانيّة على المياه التي يؤمّنونها، إلّا إذا خضعوا لضغوط. وعلى سبيل المثال، أشار المحقّقون إلى أنّ رئيس مجموعة تؤمّن المياه في كاليفورنيا، علّق على الموضوع بالقول إنّ الجمهور «لا يعرف كيف يفسّر هذه المعلومات»، وقد يتوتّر بإفراط.
والمناطق التي شملها التحقيق تمتدّ عبر 24 منطقة ضخمة، من ساوث كارولاينا إلى شمال نيو جيرسي، ومن ديترويت إلى لويفيل في كنتاكي. ولكن كيف تصل تلك المواد إلى مياه تلك المناطق؟
الأميركيّون يأخذون الأدوية، تمتصّ أجسادهم جزءاً قليلاً منها، والباقي تتخلّص منه في المراحيض. وتتمّ في ما بعد معالجة مياه الصرف الصحّي الناتجة قبل ضخّها إلى مستوعبات أو أنهر أو بحيرات.
وبعدها يتمّ تنظيف بعض المياه مجدّداً في المعامل المخصّصة لمعالجة المياه لتصبح مياه شفة. إلّا أنّ غالبيّة العلاجات المستخدمة لا تزيل جميع بقايا الأدوية.
وفيما لم يستشفّ الباحثون حتى الآن ما هي المخاطر الدقيقة التي أنتجتها عقود من التعرّض لتوليفات عشوائيّة من ترسبات الأدوية، وجدت دراسات حديثة (لم يعرها الجمهور أيّ أهميّة) أنّ لها تأثيراً خطيراً على خلايا البشر وعلى الحياة البريّة. وفي هذا الصدد يقول مساعد مدير الوكالة الأميركيّة لحماية البيئة، بنجامين غرامبلز، «نعترف بأنّ (الأمر يشكّل) قلقاً متزايداً ونحن نفكّر به بجديّة».
وبعض ما توصّل إليه التحقيق يظهر في النقاط الآتية:
ـ المسؤولون في فيلادلفيا قالوا إنّ الاختبارات هناك كشفت عن وجود 56 مادّة صيدلانيّة في المياه المعالجة المخصّصة للشرب. وبينها أدوية للألم وللالتهابات ولمعالجة الكولستيرول والربو والصرع والأمراض العقليّة وأمراض القلب.
ـ في كميّة من المياه المعالجة والمخصّصة للشرب في ساوث كارولاينا، وجدت بقايا أدوية مضادة للصرع والقلق.
ـ كُشف عن وجود هرمون جنسي في مياه الشرب في سان فرانسيسكو.
ـ مياه الشرب في العاصمة واشنطن وفي المناطق المحيطة بها، تتضمّن 6 مواد صيدلانيّة.
ـ في مياه الشفة في ولاية نيويورك وجدت أدوية للقلب، ولمعالجة الالتهابات وهرمون الـ«أستروجين»، وأدوية معالجة للتشنّج وأخرى للأمراض النفسيّة، ومهدّئات. غير أنّ المسؤولين في الولاية شدّدوا على أنّ «مياه الشفة في نيويورك توافق المعايير الفدراليّة وتلك التي وضعتها الولاية في ما يخصّ النوعيّة».
وأوضح التحقيق أنّ المواد الصيدلانيّة ليست موجودة في المياه السطحيّة وحسب، بل تصل إلى الخزانات المائيّة الطبيعيّة الموجودة تحت الأرض. وهي تشكّل مصدراً لـ40 في المئة من المياه المستهلكة.
وربّما السبب في ذلك يعود إلى أنّ الأميركيّين أصبحوا يستهلكون أدوية أكثر، ونسبة متزايدة من تلك الأدوية تتحوّل إلى مياه الصرف الصحّي من دون أن تكون قد امتُصّت أبداً. فخلال السنوات الخمس الماضية ارتفعت كميّة الوصفات الطبيّة بنسبة 12 في المئة، لتصل إلى رقم قياسي: 3.7 مليارات وصفة، بينما حافظت كميّة الأدوية المشتراة من دون وصفات عند مستوى ثابت: 3.3 مليارات دواء.
المسؤولون في قطاع صناعة الأدوية يرفضون قطعاً توصيف الواقع بأنّه مشكلة. وفي هذا السياق يقول الباحث في علم الأحياء المجهريّة، مستشار شركتي «الأبحاث الصيدلانيّة» و«المنتجون في أميركا»، توماس وايت، «طبقاً لما نعرفه، أستطيع القول إنّ الخطر الذي تشكّله المواد الصيدلانيّة الموجودة في البيئة، على صحّة البشر، هو قليل أو غير موجود».
إلّا أنّ مديرة قسم التكنولوجيا البيئيّة في شركة صناعة الأدوية، «ميرك»، ماري بوزبي، قالت في مؤتمر الصيف الماضي، «لا يوجد شكّ حول الموضوع. يتمّ رصد المواد الصيدلانيّة في البيئة، وهناك قلق حقيقي من أنّ هذه المركّبات، وبكميّاتها الصغيرة، قد تكون تشكّل تأثيراً على صحّة البشر أو على المخلوقات البحريّة».
وقد كشفت دراسات مخبريّة حديثة عن أنّ كميّات قليلة من الأدوية تؤثّر على الخلايا الجنينيّة وعلى خلايا الدم وعلى خلايا سرطان الثدي. كما أنّ وجود تلك المواد في المجاري المائيّة يؤثّر على الحياة البحريّة في العالم أجمع، حسبما أثبت التحقيق. وللتحديد فإنّ ذكور الأسماك تؤنّث: تنتج بروتينات صفار البيض (المحّ)، وهي عمليّة محصورة طبيعياً بالإناث.
ويلفت التحقيق في نهايته إلى أنّ الأجساد البشريّة قادرة على التخلّص من جرعة دوائيّة، زائدة نسبياً، تؤخذ لمرّة واحدة، إلّا أنّها تعاني من جرعات أصغر تأخذها باستمراريّة على مدى نصف قرن. وربّما تحرّك الحساسيّات أو تشكّل ضرراً في الأعصاب. وأكثر المتضرّرين منها هم النساء الحوامل والعجزة.
وينقل عن مدير معهد الصحّة والبيئة في جامعة نيويورك، دايفيد كاربنتر، قوله: «نعلم أنّنا معرّضون لأدوية ناس آخرين من خلال المياه التي نشربها. وهذا لا يمكن أن يكون جيّداً».