strong>زيارة جورج بوش الأخيرة إلى الشرق الأوسط تركّزت على دعم عمليّة السلام في الأراضي الفلسطينيّة، ودعم الحلفاء في مواجهة إيران، وتكريس الروابط مع الاعتدال العربي. زيارة استهدفت الحصول على تجاوب السعوديّة من أجل التعامل مع الارتفاع الجنوني في أسعار النفط. الأهداف لم تتحقّق، والعبثيّة مستمرّة
حسن شقراني
لم تتغيّر الأمور كثيراً منذ جولة جورج بوش في الشرق الأوسط في بداية العام؛ فالمحادثات التي أطلقها مؤتمر أنابوليس (التي بنى عليها الرئيس الأميركي أطروحة إمكان التوصّل إلى اتفاق لإنشاء دولة فلسطينيّة قبل نهاية العام الجاري) علقت في تعقيدات الاستيطان والعدوان على قطاع غزّة وآفاق سوداء تبشّر بها الإدارة الإسرائيليّة لكيفيّة التعاطي مع حركة «حماس».
كذلك فإنّ التطوّرات في الملفّ النووي الإيراني بقيت رهينة عقوبات عاديّة في مجلس الأمن مع استمرار الممانعتين الروسيّة والصينيّة للتعاطي القاسي مع طموحات طهران ودبلوماسيّتها الناجحة، بعدما كان تقرير المجمع الاستخباري الأميركي قد أفاد بأنّ الجمهوريّة الإسلاميّة أوقفت نشاطاتها في «النووي العسكري» منذ عام 2003.
يبقى العقد الممكن بناء «آمال» عليه، هو الشق الاقتصادي. وهو تحديداً ما ترتكز عليه زيارة نائب بوش، ديك تشيني، إلى المنطقة، التي تبدأ في 16 من الشهر الجاري، وتشمل سلطنة عُمان والسعوديّة وإسرائيل والضفّة الغربية وتركيا.
المتحدّثة باسم البيت الأبيض، دانا بيرينو، شدّدت على أنّ «المسائل المتعلّقة بالطاقة ستُبحَث... لأنّنا نريد أن نشهد ارتفاعاً في إنتاج» النفط (الصيغة نفسها التي طبعت كلام بوش). إلّا أنّ المنهج الذي تعتمده منظّمة الدول المصدّرة للنفط «أوبك» (بقيادة السعوديّة) يحكمه جمود أكبر من ذلك الذي يهيمن على «عمليّة السلام»، ويعادل تقريباً تأثير الدبلوماسيّة الإيرانيّة وتفاعلها على الساحة الدوليّة مع المواقف «المعتدلة» لموسكو وبكين.
عاملان يشيران إلى أنّ الأمور أصبحت أصعب لاحتواء الزيادات في أسعار النفط، وتأثيرها على الاقتصاد الأميركي.
ـــ السعوديّة، بوصفها المنتج الأكبر للنفط في «أوبك» والعالم، تشعر من دون شكّ بخيرات الأسعار المرتفعة للذهب الأسود. وما يدفع باتجاه «عدم الاكتراث» إلى هواجس الحليف الأميركي، هو أنّ الحاجز الوهمي: 100 دولار للبرميل، تمّ تخطّيه منذ بداية العام، نحو حيّز «تخدّر السوق» بالارتفاعات المتتالية وبالأرقام القياسيّة التي تسجّل بالجملة. فيوم أوّل من أمس، وصل السعر إلى سقف قياسي: 107 دولارات للبرميل، ليعود ويحطّمه بذروة جديدة تقارب 108 دولارات للبرميل.
ـــ ليس دقيقاً اعتبار أنّ رزمة المحفّزات الضرائبيّة التي قدّمتها الإدارة الأميركيّة (البالغة 168 مليار دولار) ستدفع المستهلك الأميركي إلى الإنفاق أكثر، وخصوصاً أنّ مؤشّر «ثقة المستهلك» سقط الشهر الماضي إلى مستوى قياسي منذ 5 سنوات. فرغم أنّ تأثير تلك الرزمة سيظهر قريباً عبر أموال إضافيّة في أيدي الأميركيّين، يبدو أنّ الاستهلاك سيحكمه القلق الذي سيخفض مفاعيل التأثير المرجو.
كذلك فإنّ النبوءات الشخصيّة التي يتزايد اعتماد الأميركيّين عليها لتحديد كيفيّة توظيف ما تحتويه محافظهم، تفيد بأنّ الخوف من الكساد المرتقب أصبح عند مستوى يسيطر فيه هاجس «ضرورة الادخار» على «مغريات الاستهلاك». وفي هذا الصدد يمكن تمرير معلومة أنّ البحث المتضمّن كلمة «كساد» على موقع «غوغل» على الإنترنت يُهدي إلى 97 ألف رابط إلكتروني (LINK)، بالمقارنة مع 22 ألف رابط في البحث عن اسم المغنيّة الأميركيّة بريتني سبيرز مثلاً!
عندما سُئلت بيرينو: لمَ لم يترك جورج بوش كلّ شيء ويتوجّه شخصياً إلى الشرق الأوسط لمعالجة المعضلات هناك؟ قالت: «ذلك غير عمليّ، ولكن ما يستطيع الرئيس أن يفعله هو استخدام المواهب والتصميم (التي يتمتّع بها كوادر) حكومته في مهمّته». ولكن الرئيس جاء شخصياً ولم يحقّق شيئاً، إن على صعيد عمليّة السلام أو على صعيد أسعار النفط! وحتى إذا افترضنا أنّ تحقيق السلام بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين هو عمليّة، تاريخياً كانت عقيمة (من دون إعطاء مبرّر لفشل الرئيس الأميركي فيها)، فإنّ الشؤون الداخليّة المفترض أن يتفرّغ لها بوش من خلال إرسال عناصره إلى الشرق الأوسط، مصبوغة بسوداويّة ليس أفقها المنير مرتبطاً بكلّ بساطة بضغط سعودي داخل «أوبك» من أجل رفع مستوى الإنتاج لتعديل الأسعار وإنعاش الاقتصاد الأميركي.
فنوعيّة الحياة في أميركا على المحكّ. والسبب حسبما أظهرته الأشهر العشرة الماضية، هو بنيوي. فلم يعد تحقيق «الحلم الأميركي» بالسهولة نفسها التي كان قائماً عليها. والاقتصاد القائم على عامل الاستهلاك لم يعد يستطع الإبقاء على الرفاهيّة نفسها عند مستويات مرتفعة من التعقيد في السوق الماليّة ومن الديون الخارجيّة ومن «الروح الحيوانيّة» (التعبير للاقتصادي جون ماينرد كينز) التي تتحكّم بـ«القرار الاقتصادي الرشيد» في ظلّ المخاوف والنبوءات الشخصيّة.
والأرقام مثل 37 مليون أميركي من أصل 300 مليون نسمة يعيشون في الفقر، فيما 60 مليوناً هم على شفير هاوية الفقر، توضح الواقع المخيف الذي تعيش فيه الأسر الأميركيّة التي ستخسر الكثير منها منازلها بسبب أزمة الرهونات العقاريّة التي ظهرت فقاعتها في آب الماضي لتفضح الخلل البنيوي المذكور.
الرئيس الأميركي لم يجد نفعاً من مجيئه مرّة جديدة إلى الشرق الأوسط وقدّم لذلك حجّة: «معالجة الشؤون الداخليّة». ولكن الأميركيّين يشعرون بعبثيّة معالجاته وبتبدّد «حلم الرأسماليّة» الذي نشأوا عليه.
بوش ينهي ولايته الثانية مع إمكان تبدّد حلم آخر: إبقاء السيطرة الأميركيّة على الشرق الأوسط. ففور انتهاء جولة تشيني، تبدأ جولة منافسة لوزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف... أحلام أميركيّة تتحطّم في كلّ اتجاه!