حسام كنفانيلا تزال تهدئة غزة المفاجئة تثير الكثير من علامات الاستفهام عن مسبّباتها وتوقيتها وغايات الأطراف منها، ولا سيما أنها أتت في أعقاب حديث متصاعد عن عملية عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق، مهّد لها اجتياح شمال القطاع وسقوط أكثر من 130 شهيداً في أربعة أيام. إلا أن الأمور ما لبثت أن تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى «اتفاق أمر واقع» فرمل إطلاق الصواريخ الفلسطينية وحجز الطائرات الإسرائيلية في مدارجها، وأسكت فوهات مدفعيتها، التي كانت تصبّ حممها يومياً على القطاع.
التساؤلات لا بد أن تقود إلى غايات ومصالح تحكم التزام الأطراف كافة بمثل هذه الهدنة، والحرص على عدم خرقها إلا في ما ندر، تمهيداً لاتفاق يؤطّر الحالة السلمية الحالية على الورقمن الواضح أن زيارة وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، إلى المنطقة الأسبوع الماضي، أسست لحال السكينة الأمنية هذه، لا خوفاً على المسار التفاوضي الذي أوقفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بل لغايات أكبر من ذلك. فالمفاوضات لا تزال في أدنى سلّم أولويات الحكومة الإسرائيلية ومن ورائها الإدارة الأميركية، ولا سيما بعد عمليات الاستيطان المتلاحقة في القدس المحتلة والضفة الغربية.
يبدو أن المصلحة الأميركية ـ الإسرائيلية تقتضي حالاً من الهدوء على الجبهة الجنوبية في الوقت الراهن، بانتظار إشعال جبهات أخرى، قد تكون في الشمال مع لبنان، ولا سيما أن التقدير الاستخباري الإسرائيلي السنوي أشار إلى «معقولية مرتفعة» لإعادة اشتعال هذه الجبهة في إطار التحسّب الإسرائيلي لردّ من حزب الله على اغتيال القيادي العسكري فيه، عماد مغنية.
إضافة إلى ذلك، فإسرائيل اختبرت قليلاً قدرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتدرك جيداً أن ثمن وقف إطلاق الصواريخ قد يكون إعادة احتلال القطاع بأكمله، لا جزءيه الشمالي والجنوبي. ثمن ليس في وسع سلطات الاحتلال دفعه في المرحلة الحالية، ولا سيما في ظل ما يمكن اعتباره نوعاً من «توازن الرعب» أرسته المقاومة باستهداف عسقلان وتهديد أشدود.
الولايات المتحدة أيضاً لديها برنامجها الخاص للمنطقة. وحال الحرب في قطاع غزة والمجازر لا تخدم مثل هذا البرنامج. وزيارة نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني، إلى الشرق الأوسط تهدف إلى تسليط الضوء على «خطر آخر»، وهو الخطر الإيراني. وبالتالي، فالعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة قد تصعّب مهمة المسؤول الأميركي وتحرفها عن غاياتها.
«حماس» بدورها حريصة على إنجاح مثل هذه التهدئة لإعادة التقاط أنفاسها وتنظيم صفوفها، وربما تثبيت حكمها في قطاع غزة من دون منغصات إسرائيلية. والتسريبات عن شروط التهدئة التي تطرح في القاهرة تؤشّر إلى مثل هذه الغاية. فالحركة الإسلامية تسعى إلى إعادة الوضع المعيشي في القطاع إلى ما كان عليه في السابق لتنفيس حال النقمة الشعبية الناتجة من التجويع والحصار، إضافة إلى المجازر التي ارتكبت الأسبوع الماضي، والتي هدفت، بحسب إسماعيل هنية، إلى «إضعاف الالتفاف الشعبي حول المقاومة».
«حماس» أيضاً قد لا تعارض كثيراً بند وقف تهريب الأسلحة المطروح على «مسوّدة الاتفاق»، ولا أي آلية لمراقبة هذا الأمر، إذا ما تمت الموافقة على إعادة فتح المعابر وفق شروطها ونقل إقامة المراقبين الأوروبيين من إسرائيل إلى غزة أو العريش. فالحركة الإسلامية متبنّية أصلاً لفكرة هدنة السنوات العشر، وأي اتفاق تهدئة قد يكون مقدّمة لهذه الهدنة التي تسمح لـ«حماس» بتكريس وجودها طرفاً فلسطينياً حاكماً معترفاً به عربياً وأميركياً وإسرائيلياً.
القاهرة أيضاً مستفيدة من حال التهدئة في أكثر من اتجاه. فهي من جهة تلقي عن كاهلها عبء الأزمة الإنسانية في القطاع، والتي تثير لديها حالاً من النقمة الشعبية. ومن جهة ثانية، تعيد تكريس ريادة دورها في القضية الفلسطينية وبأنها مفتاح الحلّ أعقد قضايا الشرق الأوسط.
أبو مازن، وحده، ينظر بعين الريبة والحسرة إلى ما يجري على المقلب الفلسطيني الآخر. فجهود عزل «حماس» وإنهاء حكمها لقطاع غزة، بالوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية، تنهار أمام ناظريه. ومن غير المستبعد أن يلجأ عباس و«فتح» إلى إعادة تفعيل مناوشات الجبهة الداخلية لتنغيص التهدئة ومنع استتباب حكم «حماس».