ربى أبو عموقبالة صربيا، وعند مركز مرداري الحدودي في شمال إقليم كوسوفو، لوحةٌ معلّقة كتب عليها عبارة «نرحّب بكم في جمهورية كوسوفو» باللغات الألبانية والصربية والإنكليزية. ربما كانت الأخيرة بمثابة «امتنانٍ» لدور الولايات المتحدة الأساسي في دعم وإفساح الطريق أمام استقلال الإقليم، ومحاولة انخراط نحو «العالمية».
هذا الانخراط هو «الحلم الأصعب»، الذي يسعى رئيس الوزراء هاشم تاجي إلى تحقيقه. فهذا الشاب يخطو خطوات سريعة نحو تشكيل هيكلية الدولة المولودة حديثاً، بثقة وابتسامة تكرّسان عدم احتمال العودة إلى الماضي، والارتقاء ببلده نحو الاندماج العالمي، على غرار اللغة.
في المقابل، صربيا لا تزال تائهة في تحديد هويتها، بين الرضوخ إلى الصبغة العالمية وموضة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والسير نحو الحداثة الديموقراطية، وبين إحياء نفحة نزاعات البلقان مجدداً.
فالحكومة الصربية دعت إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في 11 أيار، بعد قرار رئيس الوزراء فويسلاف كوستونيتشا عدم الاستمرار في الحكم مع شركاء موالين لأوروبا، بسبب خلافات عميقة مرتبطة باستقلال كوسوفو. الولايات المتحدة حاولت بدورها تهدئة العصبية الصربية هذه، من خلال دعمها وتحريضها بلغراد على «التطلّع نحو المستقبل»، وركن الماضي جانباً.
إنه الاقتصاد، العملة الصعبة أو الحاجز الفاصل عن هذا الانخراط العالمي. فمنذ إعلان استقلال كوسوفو وحتى اليوم، تنبض مقاهي الإقليم ذات التصميم الحديث والغربي بالشباب، إلّا أن هذه المظاهر تخبّئ وراءها وضعاً اقتصادياً صعباً لهذه الدولة المضطربة في مخاض ولادتها، وخصوصاً أن صربيا وروسيا وعدداً من الدول الأوروبية، تبرأت من الاعتراف بالإقليم كدولة مستقلة.
ولا تزال آثار الحرب متغلغلة في المجتمع الكوسوفي؛ فالإقليم يستورد الحليب واللحم حتى اليوم، من دون أن تكون له القدرة على الإنتاج. ويعدّ ترتيبه العالمي الرابع تحت عنوان «الفساد الاقتصادي»، بعد دول الكاميرون وكامبيوديا وألبانيا.
كوسوفو إقليم زراعي فقير، تسود الفوضى الكثير من موارد الطاقة لديه، رغم وفرتها.
ويعتمد على تصدير «المواد المعدنية» من السيارات القديمة التي تعدّ أكبر صادراته. البنى التحتية متهالكة، بينما تنتشر الرشوة بين رجال الأعمال، وتصل نسبة البطالة إلى 50 في المئة.
ويرى المحلّلون الغربيون أن الاقتصاد الكوسوفي سيبقى معتمداً على «المساعدات الغربية السخية»، وقد يحتاج إلى نحو عشر سنوات كحد أدنى للوقوف على قدميه. آخرون يقولون إن الإقليم يحتاج إلى إعادة ترميم صناعاته المحلية، فالنجاح ربما يعتمد على «مدى ذكاء» رجال الأعمال. البعض لا يتوجّس من قدرة كوسوفو على بناء اقتصاده، قياساً على تجربة سلوفينيا الناجحة.
إلاّ أن الفارق بطبيعة الحال، هو أن سلوفينيا كانت من أكثر الدول المنتجة بين جمهوريات يوغوسلافيا السابقة. وحين نالت استقلالها عام 1991، كانت مزدهرة اقتصادياً، ولديها علاقات قوية مع الغرب، استطاعت استغلالها حتى وصلت إلى درجة التكامل معه. وهي اليوم عضو مؤسس في منظمة التجارة العالمية، كما انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004.
لذا فمبدأ المقارنة غير وارد على الأقل في الفترة الراهنة. ربما سيمكّن الاستقلال الإقليم من العمل مع بعض المؤسسات الاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبالتالي جذب المستثمرين الأجانب. إلّا أن عدم اعتراف بعض الدول، قد يؤدي في الوقت نفسه إلى صعوبة الحصول على قروض، إضافةً إلى عرقلة توقيع اتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي، وحظر سفر الكوسوفيين إلى بعض الأماكن.
ويواجه الإقليم أيضاً تهديداً بمقاطعة اقتصادية من جانب صربيا، رغم أن ذلك من شأنه التأثير على صربيا أكثر من كوسوفو، إذ تصدّر الأولى الكثير من السلع للإقليم.
إذاً، ستحدّد قدرة كوسوفو على بناء اقتصاد ناجح ما إذا كان هذا الإقليم قادراً على أن يصبح «دولة بحق»، وبالتالي ضمان استقرار البلقان، أو الاستسلام إلى وضعه الحالي كـ«دولة فقيرة»، لـ«يبقى يتيم الغرب».
في المقابل، فإن اقتصاد صربيا اختبر نمواً اقتصادياً سريعاً عام 2000، حتى سميّت «نمر البلقان»، إلّا أنها في الوقت نفسه مدينة وتعاني عجزاً في صادراتها.
صياغة سياسة اقتصادية ناجحة في كوسوفو هي إحدى «ضربات الجزاء» الذي سيعمل تاجي على كسبها في حربه غير المعلنة مع صربيا، مفعماً بأمهاته الكثيرات بالوصاية (الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي). إذ يدرك رئيس الوزراء الكوسوفي أن جارته بلغراد أمام اختبار مصيري الشهر المقبل، سيحدّد هويتها الخارجية، بين سلوك طريق كوسوفو «الغربي» والمصالحة الباطنية، أو تحطيم حلم الإقليم، وليعيد التاريخ نفسه. هذه المرة إلى أبعد بكثير من الحروب التي حملها الماضي.