«العدالة والتنمية» يسابق الزمن لتجنّب الحظر... والمخاوف على الاقتصادأرنست خوري
الطلب الذي تقدّم به المدّعي العام لمحكمة التمييز التركيّة، عبد الرحمن يالتشينكايا، بحظر نشاطات حزب «العدالة والتنمية»، ومنع 71 قياديّاً منه من مزاولة الحياة السياسية، سيكون على الأرجح، المعركة النهائيّة والفاصلة التي ستحدّد مصير البلاد بين عتاة العلمانيّين من جهة، والتيّار الإسلامي الذي بقي متّهماً بتعصّبه الإسلامي، رغم جميع مظاهر الاعتدال التي أظهرها منذ عقود.
معركة أخيرة لأنّّ التيار العلماني المتشدّد، فقد تقريباً جميع مكامن القوّة داخل أجهزة الدولة، إلا في المحكمة الدستوريّة، وهي المؤسّسة الفائقة الصلاحيات، التي يحقّ لها محاسبة رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمانكان من المتوقَّع أن تحسم المحكمة أمس قرارها بقبول الدعوة في الشكل أو رفضها. لكن يبدو أنّ أعضاءها، قرّروا إدخال البلاد في مرحلة طويلة من الأزمات السياسية والاقتصاديّة، وذلك بعدما قرّروا تأجيل اتّخاذ قرارهم 10 أيّام، ستكون خلالها البلاد في حالة غليان دائم على كلّ الصعد. وظهر نائب رئيس المحكمة عثمان باكسوت غير مستعجل، فأعلن أنّ طلب المدّعي العام وُزِّع على زملائه «ونحن مستعدّون لدراسته وسنصدر قرارنا من ناحية قبوله من عدمه في الأيّام العشرة المقبلة».
لا شكّ أنّ الأعضاء الـ11 للمحكمة، يعرفون أنّ من أبرز ما دفع 47 في المئة من الأتراك إلى التصويت لحزب «العدالة والتنمية» في تمّوز الماضي، هو الإنجازات الاقتصاديّة التي حقّقتها حكومة رجب طيب أردوغان منذ عام 2002. على هذا الأساس، كان معسكر الجيش والعلمانيّين، يدرك أنّ طلباً كالذي تقدّم به يالتشينكايا يوم الجمعة الماضي، سيسبّب أزمة اقتصاديّة وماليّة حادّة. وهكذا حصل؛ ففي غضون يومين فقط من انشغال الأتراك بتداعيات «القنبلة» التي فجّرتها الدعوى، انخفضت قيمة الليرة التركيّة 4 نقاط في مقابل الدولار الأميركي، كما انخفضت قيمة الأسهم التركيّة 7 نقاط في البورصات العالميّة، لتزيد الأزمة التي سبّبتها مشكلة ارتفاع أسعار النفط.
أملت الأوساط العلمانيّة أن تؤدّي هذه الظواهر إلى نموّ نقمة شعبيّة تعجّل في القضاء على حكم أردوغان وعبد الله غول. لكنّ مفاجأة غير سارّة واجهت هذا المعسكر. فأهمّ الروابط الاقتصاديّة والنقابيّة، خذلتهم، إذ رأى أكبر منتدى لرجال الأعمال «توسياد»، في بيان له، أنّ طلب إغلاق الحزب الحاكم «ينتهك المبادئ الديموقراطيّة». وقالت «توسياد» إنّ «طلبات إغلاق الأحزاب السياسيّة التي تمثّل عناصر لا غنى عنها في أسلوب الحياة الديموقراطية أمر لا يمكن القبول به بالنسبة إلى الديموقراطيّة التركيّة التي تعيش نظاماً برلمانيّاً تعدّديّاًً».
وبالرغم من أنّ اتحاد رجال الأعمال انتقد ضمنيّاً الحزب الحاكم من خلال الإشارة إلى أنّ «أعماله الأخيرة أثارت التوترات في المجتمع التركي»، في إشارة إلى إلغاء الحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات، فإنّ موقف رجال الأعمال يُعدّ مكسباً لأردوغان وزملائه، لم يكونوا ينتظرونه يوماً من طبقة حاربتهم بشراسة منذ وصولهم إلى الحكم.
«العدالة والتنمية» فشل في حشد تضامن وطني من الأحزاب الرئيسيّة في البلاد، واستعاض عنها بحملة من جمعيات المجتمع المدني والأحزاب الصغيرة غير الممثّلة في البرلمان. أكبر حزب معارض وقف إلى جانب حزب أردوغان، هو «الحركة القوميّة». غير أنّ أحزاب «الشعب الجمهوري» والمجتمع الديموقراطي (الكردي) واليسار الديموقراطي فضّلوا تركه لمصيره، كلّ لحساباته الخاصّة.
الصورة المستقبليّة تبدو قاتمة؛ فإذا قرّر 7 من الأعضاء الـ11 للمحكمة الدستوريّة قبول الدعوى القانونيّة، ستمتدّ القضيّة إلى أشهر وربّما سنوات، حتّى إنّه من الممكن أن تطول سنتين، بحسب ما تشير إليه السوابق التاريخيّة. وفي هذا الوقت، ستعيش البلاد مرحلة من الفوضى السياسية الكبيرة يُخشى أن تخيّم بظلالها على الاقتصاد وتثير مخاوف المستثمرين الأجانب.
وتبقى بين أيدي أردوغان وفريق عمله خيارات عديدة. فمن المتوقَّع، إذا سارت الدعوى في أروقة المحكمة الدستوريّة، أن تسرّع الحكومة من جهودها لتعديل الدستور، قبل أن تصدر المحكمة قرارها. هكذا يذكّر المتخصّص في الشؤون التركيّة والأستاذ في جامعة اسطنبول، ويليام هال، أنّ سحب بعض الصلاحيات من يد المحكمة (وفي مقدّمتها حقّها في حلّ الأحزاب ومحاسبة الحكومة والرئيس)، عبر تعديل دستوري، سينجي الحزب الحاكم من الخطر. وفي هذه النقطة، يبدو أنّ «البطء والبيروقراطيّة اللذين يشوبان عمل القضاء في تركيا، يسيران في صالح أردوغان»، بحسب تعبير هال.
من جهته، يرى الأستاذ في جامعة أنقرة، دوغو إرغيل، أنّ الصراع الحالي سيكون الأخير بين «نظام قديم، وآخر يتمّ بناءه حاليّاً». لكنّه يبدي تفاؤلاً كبيراً في أن يخرج «العدالة والتنمية» منتصراً من المعركة، لأنّ كلّاً من «البورجوازيّة التركيّة والمجتمع المدني والاتحاد الأوروبي يعارضون السير بهذه الدعوى»، ومن دون هؤلاء، لا يستطيع حتّى الجيش تغيير الأمور قيد أنملة!


«المساجد ثكناتنا والمؤمنون جنودنا»
المحكمة الدستوريّة في تركيا، هي بحسب المادّتين 146 و148 من الدستور، المحكمة العليا التي تنظر في دستوريّة القوانين وتوافقها مع الأحكام العلمانيّة، كما تدقّق في الدعاوى المرفوعة على رئيس البلاد وأعضاء الحكومة والقضاة المدنيّين. تتألّف من 11 عضواً أصيلين و4 احتياطيين. تعيين أعضائها يكون على الشكل الآتي: 2 من محكمة التمييز العليا، و2 من مجلس شورى الدولة، و1 من محكمة التمييز العسكريّة العليا، و1 من المحكمة الإدارية العسكريّة العليا، و1 من محكمة الحسابات، و1 من مجلس التعليم العالي، و3 من الضبّاط والمحامين الإداريّين السابقين.
8 من الأعضاء الحاليّين للمحكمة، عيّنهم الرئيس السابق أحمد نجدت سيزر (الذي سبق أن كان رئيساً للمحكمة قبل وصوله إلى قصر شنقايا). عضوان آخران، بينهما رئيس المحكمة حازم كيليتش، عيّنهما الرئيس الأسبق تورغوت أوزال والعضو الباقي عيّنه سليمان ديميريل. إذاً، الغالبية الساحقة من الأعضاء الحاليّين من المعارضين للإسلاميّين المعتدلين الحاكمين في أنقرة. ويكفي أن يوافق 7 من الأعضاء على دعوى عبد الرحمن يالتشينكايا لتبدأ الإجراءات القانونيّة التي تنتهي بحكم تبرئة «العدالة والتنمية» أو بإسقاط الدعوى. وإذا حكمت بمنع رئيس الحكومة رجب طيّب أردوغان من مزاولة العمل السياسي لمدّة 5 سنوات، فلن تكون التجربة الأولى في حياته مع القضاء التركي، إذ سبق أن مُنع من مزاولة النشاطات السياسية، حتّى إنّه سُجَِن لمدّة 4 أشهر عام 1999 بتهمة اعتناق أفكار دينيّة ضدّ العلمانيّة بعد إلقائه علناً قصيدة قال فيها: «المآذن هي حرابنا، القبّة هي خوذتنا، المساجد هي ثكناتنا والمؤمنون هم جنودنا».