حسن شقرانيسؤال يُطرح: كيف يمكن مصرفاً استثمارياً بهذا الحجم والنفوذ أن يفقد نحو 99 في المئة من قيمته خلال 14 شهراً؟ الجواب ليس معقّداً. ففي إطار لولب التراجع في أداء الأسواق، المشهود منذ بدء أزمة سوق المنازل (الرهونات العقاريّة الممنوحة لزبائن غير مؤكّد من إمكان وفائهم بديونهم)، والانحسارات في الاقتصاد الأميركي تنعكس سلباً بالقدر نفسه على المضارب وعلى المستهلك على حدّ سواء. بمعنى أنّ انعكاس الخوف من استفحال الأزمة ينعكس على تداول المشتقات الماليّة، ويلجأ المضاربون إلى النفط والذهب (الملجأ الآمن)، كما أنّ نوعيّة الأزمة التي أظهرت عدم قدرة الحكومة الأميركيّة على تدارك الانهيار (بالطاقات التي استخدمتها حتى الآن) أوضحت أن المستهلك الأميركي يفضّل الادّخار على الاستهلاك ضمن اقتصاد اهتزّت الثقة بأفق عودته على رجليه: كيف ستنعكس الأزمة التي تعمّقها حرب ستصل تكلفتها إلى 3 تريليونات دولار على نظام الرعاية الصحيّة على المدى الطويل مثلاً، وخصوصاً أنّ الخدمات الاجتماعيّة تعاني سوءاً في الإدارة؟ وهل لاقى حديث الرئيس جورج بوش أوّل من أمس عن أنّ إدارته «تسيطر على الوضع» أيّ صدى إيجابي على الإطلاق؟
أزمة «بير شتيرنز» مشابهة لحال المصرف البريطاني «نورثورن روك»، الذي سقط في فخّ أزمة الرهونات العقاريّة في أيلول الماضي (لم يعد يستطيع جمع الأصول في السوق الماليّة العالميّة بسبب عامل «فقدان الثقة» نفسه). وفي خطوة مفاجئة، أعلن وزير الماليّة البريطاني، أليستر دارلينغ، الشهر الماضي، تأميم المصرف، ووضع جدول زمني يقضي بأنّ يعيد المصرف 48 مليار دولار من الأموال العامّة خلال السنوات الأربع المقبلة. ورغم ذلك، سيقتطع المصرف، بحسب بيان أصدره أمس، أكثر من ألفي وظيفة (ثلث موارده البشريّة) بحلول عام 2011.
إنّها إحدى حفرات العولمة الماليّة. والعلاج بالنسبة إلى «بير شتيرنز» كان مساعدة حكوميّة لتحقيق تملّك من الأقوى. أمّا حال «نورثرن روك» فقد عولج بتأميم مباشر مؤقّت. ولكن في كلتا التجربتين، المطروح هو مستقبل النظام الذي تقوم عليه الأسواق الماليّة، وما هي معايير الرقابة الجديدة التي يجب اتباعها؟ وهل بات من المحال إعادة إنتاج الشبكة الماليّة الكونيّة من دون حصول انهيار؟
الأكيد أنّ التقنين الحكومي المتبع على درجات في مختلف دول العالم، يعاني الأمرّين في دول الاقتصاد الحرّ. فعندما تمتزج اللبراليّة مع تعقيد غير مفهومة درجته في السوق المالي، تنشأ زوبعات تضطرّ المؤسّسات الماليّة الرسميّة إلى التدخّل مباشرة لاحتوائها (في أميركا الاحتياطي الفدرالي وفي إنكلترا المصرف المركزي). ولكن التجارب الممتدّة منذ الصيف الماضي أثبتت أنّ التدخّل جاء متأخراً، لذا لا نزال نرى انهيارات على شاكلة ما حدث مع «بير شتيرنز» وربّما انهيارات مستقبليّة، وخصوصاً أنّ الخسائر الناتجة من الأزمة الحاليّة قد تصل إلى 400 مليار دولار، عوضاً عن 285 مليار دولار، بحسب آخر المعطيات.
هدأت أسواق المال في آسيا وأوروبا وحتى الولايات المتحدّة نسبياً أمس عبر ارتداد مؤقّت. إلّا أنّ الأسوأ قد يأتي. وما ظهر على أنّه خسارة نقطتين أو ثلاث قد يتضاعف... هذا هو نتاج مواكبة تطوّر العولمة الماليّة وتعقّدها بحياديّة الدولة حتى اللحظة الأخيرة. فليبدأ البحث عن «نهج مالي» جديد يعيد الثقة من خلال إعادة بناء النظام قبل انهياره كلياً... أم أنّ الانهيار حتمي؟!