طوني صغبينيبعد عشرين عاماً على صمت معابد التيبيت، هبّ رهبان «سقف العالم» ليطالبوا بحقوق «ثقافية وسياسية» حرمتهم منها سيطرة أكثرية «الهان» الشيوعية على الهضبة. وفيما كانت أنظارهم تتجه إلى الراهب الأكبر الدالاي لاما، فاجأ الأخير العالم بالتهديد بالاستقالة إذا «استمر الوضع بالتدهور».
لكن استقالة القائد البوذي لن تخدم في الواقع سوى بكين التائقة إلى «تقاعد» الزعيم المعارض، فضلاً عن أن الوصول إلى هضبة مستقلة أو «ذاتية الحكم» أمر لا يمكن تخيّله من دون «دهورة الأوضاع». فماذا يريد الدالاي لاما؟ ولمَ المبالغة في الاعتدال في لحظة تبدو تاريخية؟
الإعلان المفاجئ للزعيم التيبيتي، قائد الانتفاضة الاستقلالية الكبرى في الخمسينات،
ليس غريباً لمراقب تقلبات موقف الدالاي (من المطالبة بالاستقلال إلى الاكتفاء بالحكم الذاتي، من انتقاد «غرور» الولايات المتحدة التي «تؤمن باستخدام القوة»، إلى الإشادة «بحامية الديموقراطيات والحريات في العالم»).
لكن بغضّ النظر عما إذا كان تصريحه يدلّ على زعيم روحي معاد للعنف، أكثر منه قائداً سياسياً، فإن الأحداث الأخيرة أثبتت، أنه يصبح أكثر فأكثر «خارج اللعبة»، على حدّ تعبير رئيس منظمة «الشباب التيبيتي» تسيوانغ ريغزين.
الحركة السياسية في التيبيت والمنفى تبدو أكثر تحرراً من عباءة الدالاي لاما، رغم أن جميع الأطراف المؤيدة للقضية تستلهم نضاله وتعاليمه في تحركاتها. فالاحتجاجات الفجائية العنيفة نهاية الأسبوع الماضي، برهنت على عدم قدرة الزعيم البوذي على ضبطها. يضاف إليها جملة من التطورات تصب في هذا الاتجاه: موقف البرلمان والحكومة التيبيتيان في المنفى الأكثر تشدداً في مهاجمة الحكم الصيني و«الأولمبياد». مسيرة «العودة إلى الوطن» التي أعلنها رهبان بوذيون منفيون مطلع الشهر الجاري من دون مباركة الدالاي لاما، والتي تهدف في خطوة محفوفة بالمخاطر، إلى عبور الحدود الهندية ـ الصينية إلى التيبيت، إضافة إلى المنظمات الشبابية وغير الحكومية التيبيتية التي اتخذت جميعها موقفاً جذرياً يطالب بالاستقلال التام ومقاطعة «الأولمبياد»، ومنها منظمة «الشباب التيبيتي»، التي أشارت بحزم في مؤتمرها الأخير إلى أن القضية «تستمر بعد موت الدالاي لاما».
فقدان سيطرة الدالاي لاما على الأرض يمكن تفسيره بتعارض اعتداله، حيث يكتفي بالمطالبة بحكم «ذاتي ثقافي» للهضبة البوذية، ويراهن على تحقيق ذلك بالحوار مع بكين، مع الاستياء العميق، أو بالأحرى «الغليان البوذي» من النظام الصيني، الذي دفع رهباناً نذرواً حياتهم للتعبّد والصلاة، إلى إحراق المحال التجارية ومهاجمة الشرطة.
القائد التيبيتي المعتدل يسير بعكس الرياح التي تهبّ على «سقف العالم»، لكن ربما لأنه يدرك أكثر من غيره احتمالات انتصار القضية؛ فبين بكين المتمسكة بالموقع الاستراتيجي والثروات في الهضبة، والدول الغربية التي تخشى تدهور العلاقة مع «مستقبل الاقتصاد العالمي»، جاء تصريح وزارة الخارجية الألمانية التي ناشدت الصين «بذل كل الجهود الممكنة لضمان سلامة السياح الألمان والأجانب» كأبلغ تعبير عن الموقف الدولي تجاه الإقليم: رهبان التيبيت يحلمون بوطن، والدول الداعمة لهم تحلم بموقع سياحي.