strong>عكا ـ فراس خطيبلا يختلف حال عكا عن غيرها من المدن العربية في فلسطين التاريخية. مأساة فقر وبطالة ومخططات تهويد يواجهها أهل المدينة بصبر وتصميم لحماية الطابع العربي العريق للمدينة التاريخية ولبلدتها القديمة وأسوارها، التي لم تسلم من العبث الإسرائيلي
تهويد يتجاوز البيوت ويطال البلدة القديمة والأسوار... وقصص شتات من دون حلّ
الصباح في البلدة القديمة في عكا، لا يزال عريقاً وعربياً بين الأسوار، رغم كل شيء: صوت مؤذن مسجد الجزار، يختلط بأصوات الباعة الممتدين على بلاط السوق. موسيقى مصرية ولبنانية تنبعث من زوايا مهملة، وبائعو عصير القصب وغزل البنات يتبادلون الصيحات باللهجة العكِّية. لهجة أقرب إلى الموسيقى من الكلام. لا أحد يعرف حتى الآن سرَّ الحناجر التي لا تتعب في هذه المدينة. هذا المكان عربي، يشبه سوق القدس، لكنه أصغر، يمتاز برائحة البحر المنبعثة من بسطات السمك الممتدة على طوله وتعطّر كل زاوية هناك.
الصباح في عكا، ببساطة، تفاؤل إلى حد الإدمان. وبشهادة أهلها، من يسكن هذه البلدة الفقيرة، رغم ما تواجهه من مآسٍ، تنتابه سعادة. «هناك أناس لا يسكنون هنا منذ زمن، لكنَّهم لا يبدأون يومهم من دون المرور في عكا ليشمّوا البحر»، هكذا يفاخر أحد سكانّها العاطلين عن العمل، الجالس إلى جانب الطريق.
القادم إلى المدينة يعي جيداً أنَّ هذه الأجواء الرشيقة هي استقبال مألوف، لكنه لا يلغي الحقيقة المرّة. عكا مثل أهلها، تعيش مأساة مغلّفة بـ«ابتسامة رضى»، تقف من خلفها معاناة، حالها من حال المدن الفلسطينية «المختلطة»: يسكنها قرابة 52 ألفاً، بينهم 17 ألف فلسطيني، منهم ستة آلاف يعيشون في البلدة القديمة، والباقون منتشرون في أحياء خارج الأسوار.
تخوض المدينة حرباً على الحجارة، تواجه مخططات لامتناهية لتهويد كل شيءٍ، حتى أسوارها الجميلة. يعاني أهلها بطالة مستشرية. الناس هناك لا يذكرون نسبة، يقولون «الغالبية». وبين سطور الحصار المأساوي، يعيش جزء كبير من أهلها قصص شتات عائلات تنقسم على شقَّي البحر، وتجار في السوق يشكون الحال البائسة ويحلمون بأيام مضت. «حتى صرخات فرح الصيادين العائدين صباحاً من أعماق المتوسط مدججين بالأسماك، لم نعد نسمعها»، يقول أحد الصيادين.
البداية... قصة شتات
في إحدى الزوايا المظلمة من السوق، يقف سمير حتحوت، عكِّي قوي البنية. كان حدّاداً، لكنَّه ترك المجال لضعفه. افتتح محلاً تجارياً بسيطاً يبيع الكعك والعصير. كان واقفاً خارج المكان، ينظر مبتسماً إلى عراك ودّي بين شابين عكِّيين يلعبان «المحبوسة». حتحوت حالة فلسطينية، قد تواجهها في كل مكان من فلسطين التاريخية. بطل من أبطال قصص الشتات. قصص اتخذت على مدار سنوات عناوين من «المفارقة». عندما عرف أنَّه يتحدث إلى جريدة لبنانية «دار اللون في وجهه» كما يقول العكِّيون. وقال بصوت فرح «شقيقتاي في لبنان، منى وعايشة حتحوت، وعمّاتي أيضاً تزوّجنَ هناك. ليتهم يرون سلامي».
القصة بدأت قبل النكبة. والده سافر إلى لبنان وتزوّج من امرأة هناك، وولدت لها ابنتان. بعد النكبة، عاد هرباً إلى عكا لبضعة أيام، ليلتقي أهله ويتمّم بعض المعاملات، لكنَّه احتُجز هنا، ولم يستطع العودة إلى لبنان، فتزوّج مرة أخرى في فلسطين، ليكون ربَّ عائلة مشتتة على شقَّي البحر، بين عكا وما خلف بحرها، بيروت. وظلت زوجته وابنتاه في حال انتظار دامت سنوات، وانتهت عند وفاته.
المفارقة تكمّل القصة. أثناء رواية حتحوت لحكاية شتات أسرته، اقترب رجل يهودي من أصل مغربي، (مروكي كما يقال). اسمه موشيه، كان يقود دراجة هوائية ويرتدي بنطالاً قصيراً ونظارة شمسية. يسكن موشيه في أحد أحياء البلدة الجديدة، لكنَّه يزور البلدة القديمة يومياً للتسوق وشرب القهوة والتسلية ما بعد التقاعد. اقترب من حتحوت مبتسماً «لقد عدت بالأمس من المغرب. لقد زرت ابنيَّ هناك». يعيش ابناه في المغرب، قرّرا الانتقال إلى هناك قبل سنوات. جاء قرارهما بحسب رواية الأب اليهودي، «بعد زيارة للجذور في المغرب. ويعيشان حياة سعيدة».
ارتبك حتحوت، وقال بصوت مخنوق «تفضل، هذا اليهودي يذهب إلى الدول العربية متى يشاء، وأولاده يعيشون في المكان الذي اختاروه، وهو يزورهم متى يشاء. وأنا منذ عشرات السنين لم أحظ بزيارة ولو لدقيقة إلى بيت والدي في لبنان». ويصمت ثم يضيف «ماذا سأقول لك. هذه الصدفة تقول كل شيء... لن أضيف».
«هذه ليست عكا»على مقربة من المسمكة، يجلس مسنٌّ تجاوز السبعين من عمره، يرتدي نظارة شمسية بنية داخل دكان للاكسسوارات. يحمل جريدة عربية، ويقرأ. على عكس الغالبية في المكان، لا يسعى إلى جذب المارة، ولا الواقفين على مقربة من متجره. حين تسأله لماذا لا يفعل كما التجار، يحرك يده من دون أن يلتفت «ماذا تريد مني؟ أن أتوسّل الناس... فليذهب السوق كلّه إلى جهنم».
قالها بغضب المسنّين المألوف المخلوط بالشتائم. لكنَّ بعض التصميم على الحديث معه يفتح قلبه لبرهة، ويروي قصصاً عن الماضي والسائحين والعرب والفلاحين (أهل عكا يطلقون على سكان القرى اسم الفلاحين). حيث كانت عكا مركزاً. وينهي حديثه «ما تراه اليوم، ليس عكا»، ويعود إلى الجريدة غير مكترث.
... والتهويد أيضاً
التاريخ يصرخ في كل زاوية. الأسوار تحتل أفق المدينة، ورائحة العراقة تلغي محاولة كتابة تاريخها المشوّه دائماً. من يمر بين بيوتها، يشعر بذلك الدفء، لكنَّه يلمس بؤساً عنوانه الفقر والبطالة. شباب لا حول لهم ولا قوة، تجمعهم النرجيلة إلى جانب الطريق، وحوادث إجرامية تقف الشرطة أمامها مكتوفة الأيدي، ومقاهٍ صارت مرتعاً للعاطلين عن العمل، وأطفال يطلّون من شبابيك البيت على أفق لا يبشّر بخير.
غالبية أهالي البلدة القديمة، كما في المدن الفلسطينية التاريخية مثل يافا واللد والرملة، ممنوعون من التوسع والترميم. هم أصحاب البيوت الأصليون، لكنَّهم بمثابة «مستأجرين محميين». غالبية البيوت تابعة لشركة تطوير عكا (تطهير عكا كما قال أحد الشبان) والشركة الحكومية «عميدار»، وجزء آخر يملكه السكان «طابو». «أحياناً أخجل من النظر في عيون أولادي، هم يكبرون والبيت يضيق عليهم، ولا حول لي ولا قوة»، يقول أحد سكان عكا، مبيّناً أن «هذه الوضعية تولّد اليأس. إما أن تترك البيت للشركة الإسرائيلية وإما أن تعيش حياة بائسة، وعلينا الاختيار بين الأمرَّين».
من يسير في شوارعها يشهد بيوتاً خالية ومغلقة، ويقول عضو البلدية، أحمد عودة، إنَّ «جزءاً من هذه البيوت تابع لشركة تطوير عكا وعميدار. هناك شركات يهودية تشتري بيوتاً من الشركات الحكومية «وتغلقها حتى إشعار ليس معروفاً، إلى حين يرونه ملائماً لفتحها».
يسير مخطط التهويد ببطء. بالإضافة إلى الشركات الحكومية، ثمة سماسرة يشترون البيوت بواسطة عملاء لهم، ويبيعونها للشركات اليهودية في ما بعد. والناس لا يشعرون بالمخطط مباشرة، ولا يرونه أمام أعينهم. فالشركات تفضّل الحفاظ على هدوء خبيث. تشتري البيت وتغلقه، حتى لا تنفجر القضية بشكل كبير. ففي «البلدة القديمة اليوم ما يقارب 250 بيتاً مغلقاً، مجهولي المستقبل»، يقول عودة.
ثمة مناقصات دائمة لبيع البيوت، غالبية المستثمرين من خارج المدينة تحت تسميات مشكوك في أمرها، شركات ألمانية وسويسرية وأميركية، ودخلت جمعية «إيليم» التي تعمل في مجال الاستيطان في الجليل واشترت مباني ورمّمتها تحت غطاء مساكن للطلبة، وأسكنت فيها أيضاً بعض الطلاب العرب ليكونوا غطاءً لمخطط استيطاني.
الطرف الغربي للمدينة، «غوش 10» هو الأكثر استهدافاً بالنسبة إلى الشركات الإسرائيلية. حيث تبذل الشركات اليهودية جهوداً منقطعة النظير لشراء البيوت هناك، «من يرد أن يبيع بيتاً يجد من يشتريه خلال دقائق بالسعر الذي يريد»، يقول أحد السكان.
التهويد تجاوز السور
التهويد ليس للمباني فقط. ثمة محاولة استهداف للوجود العربي خارج السور بأساليب عديدة. عكا باتت مصدر قلق للسلطات، وخصوصاً أنَّ عدد اليهود يشهد انخفاضاً في كل عام وتسرّباً من عكا إلى نهاريا وضواحي حيفا، ما دفع رئيس البلدية شمعون لينكري إلى زيادة مخططات إسكان اليهود. وقد نجح في وقف الانخفاض بواسطة جلب المستثمرين والمستوطنين ممن كانوا في غزة للسكن ضمن شروط. هذا العام، أول مرة يشهد عدد اليهود ازدياداً منذ سنوات.
ثمة أحياء جديدة في عكا، غالبية سكانها من العرب، إلا أنَّ البلدية مصممة على أن تغلق المحال التجارية يوم السبت، لكونه عطلة رسمية في إسرائيل، الأمر الذي يرفضه التجار، ويدفعون غرامات عالية.
لا يعرف الأهالي من أين يبدأون بمواجهة المخطط. فهم يواجهون مخططات من تهويد السور حتى اللافتة المتمترسة عند مدخلها الشرقي. فقد خاض السكان مواجهة مع البلدية فقط لكتابة اسمها بالعربية إلى جانب اسمها العبري «عكو».
المخططات لا تنتهي، لكنَّ أهل عكا، يشددون دائماً على عشقهم للمدينة المتعبة، «نحن مثل أسماك في بحرها، إذا خرجنا منها نموت». يقول أحد الشبان هناك، ويضيف «عندما يخرج الشاب من البلدة القديمة إلى المفرق المؤدي إلى نهاريا يقسم «وحياة غربتي». نحن نشعر بالغربة عندما نبتعد عن المدينة أمتاراً.


البحر بيضحك ليه!البحر في عكا، كما في المدن السياحية، هو ركن المدينة وعمودها الفقري «حين يموت البحر، تموت المدينة». الأسماك لم تعد كما كانت. المصانع الكيماوية الواقعة بين عكا وحيفا تسكب كلّ سمومها في البحر، ويمنع الصيادون من الاقتراب إلى ما بقي من «المناطق العسكرية» المحيطة بالشاطئ. «نظل في منطقة صغيرة، لا أسماك فيها. كان البحر ذات يوم مفتوحاً. في كل عام يضيق بنا حتى رمى بنا إلى الشاطئ».
الصيادون يتحدثون عن البحر كأنه جزء منهم ومن عائلاتهم. الصيد في عكا بالوراثة. لكل واحد تجربة. يحكي أحد الصيادين من عائلة زكور، كيف توقف محرّك المركب ليلاً وسط البحر والعواصف شديدة. حيث كان مع شقيقه ووالده. فاختار شقيقه المعروف بشجاعته أن يسبح حتى الشاطئ من أجل طلب المساعدة. فقفز في البحر ولم يعد. عاد بعد أسبوع جثة هامدة على الشاطئ.
وهناك من يحكي عن أيام العز. «كان أهل عكا يجتمعون كلهم عند الميناء. عودة الصيادين من البحر كانت أجمل الطقوس. لكنّها اختفت اليوم» لم يعد البحر بحراً.