نيويورك ـ نزار عبودالاتحاد الروسي لم يعد الاتحاد السوفياتي الذي تعامل مع الغرب بندّية. لكنه ليس بالتأكيد مجرد دولة عادية لكي يكون التعامل معه بالأسلوب الذي أتبعه الحلف الأطلسي مع الدول التي خرجت من الحرب الباردة، والتي آل معظمها إلى التبعية المطلقة للولايات المتحدة
لا يمكن التعامل مع الاتحاد الروسي بمعزل عن معطيات عديدة، أبرزها أنه أكبر دول العالم مساحة، وأغناها بالثروات الطبيعية وأكبر مصدر يمد أوروبا بالغاز والنفط. كما أنه لا يزال يمتلك ترسانة عسكرية قادرة على تدمير العالم عدة مرات، من دون إغفال تحالفه الرئيسي مع الصين، العملاق الصناعي الذي يرتبط معه بكل أشكال التعاون السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي. وهما معاً يمثِّلان قطباً جيوسياسياً فائق الطاقات. لكن الدب والتنين يفضِّلان السبات الشتوى ريثما تتحسن حرارة الطقس في الخارج.
الولايات المتحدة دعمت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الأوليغارك (رجال الأعمال) الروس من أمثال ميخائيل خودركوفسكي، الذي سيطر على شركة «لوك أويل» النفطية العملاقة بدريهمات قليلة. لكنه يقضي حالياً حكماً بالسجن في سيبيريا لمدة ثماني سنوات. فيما أعادت الدولة السيطرة على قطاع الطاقة عبر شركة «غاز بروم»، مثيرة حفيظة الأوروبيين والأميركيين، ومقلمة أصابع الليبراليين المقربين من الغرب. وكثير منهم يقيمون دعاوى قانونية على روسيا بقيمة عشرات مليارات الدولارات في لندن ونيويورك. لذلك تعرضت روسيا منذ أواخر التسعينيات لحملة انتقادات شديدة من الغرب الذي يرفضها بقدر ما يخشاها.
كما أن روسيا تستمر في تزويد إيران بالطاقة النووية والأسلحة، التي برهنت عن فعالية عالية في يد المقاومة اللبنانية. ثم إنها تتحاور مع «حماس» دون مخاوف.
فهل يعني هذا أن روسيا تسير نحو حرب باردة أخرى مع الغرب؟
مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، أعرب عن خشيته من دفع بلاده إلى هذه الزاوية، نافياً أن تكون موسكو ترغب من قريب أو بعيد في أن تسترجع «أي جزئية من جزئيات الحرب الباردة». بل دعا إلى الإسراع في تجديد معاهدة الأسلحة الاستراتيجية الهجومية مع الولايات المتحدة التي تنتهي العام المقبل، وإلى إبرام معاهدة سريعة لمنع تسليح الفضاء وما يمكن أن يتمخض عنه من مخاطر هائلة على السلم العالمي.
الروس، وبعد نزع عباءتهم الشيوعية، توقعوا أن يكونوا مقبولين غربياً، لكن من الصعب أن تجد تقريراً واحداً في الإعلام الغربي يتحدث عن موسكو بإيجابية، علماً بأن روسيا تتعاون مع الغرب في ما يسمى «الحرب على الإرهاب»، وإن كانت تعارض غزو العراق واستمرار احتلاله. كما تعاونت في الأزمة النووية الكورية الشمالية، ودعمت ثلاثة قرارات دولية في مجلس الأمن تفرض عقوبات على طهران. وهي طرف مؤيد للولايات المتحدة في اللجنة الرباعية في موضوع الشرق الأوسط، وتسعى لعقد مؤتمر دولي للسلام في موسكو هذا الصيف يستكمل مسيرة أنابوليس المتعثرة.
روسيا تدعم أيضاً الحرب الدولية في أفغانستان على «القاعدة» و«طالبان». وتربط بين تلك الحرب والثوار الشيشان الذين تراهم امتداداً لـ«القاعدة».
وروسيا كانت وراء المبادرة الأوروبية الأخيرة لتحسين العروض لحل النزاع على الملف النووي الإيراني. وهي تؤمن بما يسميه المندوب الروسي «الدبلوماسية الخلاقة»، التي فسرت بأنه يمكن حل النزاع مع إيران ومنعها من امتلاك سلاح نووي بالحوار من دون وضع شروط مسبقة مثل وقف التخصيب أولاً، بل بالاعتراف بحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية، لكن مع فرض رقابة مشددة على نشاطها، وتهدئة روعها بأنها لن تتعرض للهجوم كما حدث في كل من العراق وأفغانستان.
لكن روسيا تختلف مع الولايات المتحدة في العراق، فهي ترى أن وجود القوات المحتلة كان المفجّر للحرب الدموية المستعرة. وترى أن الحل يكون بالإعلان أولاً عن موعد انسحاب تام من العراق ينفذ على مراحل. وعندما ينتهي الاحتلال تنتفي مبررات النزاع، ويعود الهدوء تدريجاً. وترى أن فشل مبادرة «العهد الدولي» التي انطلقت في مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد قبل نحو عام، يعود إلى أن الولايات المتحدة لا تود أن يشاطرها أحد في القرارات بشأن العراق. والحل حسب رأيها يكون بتقديم مساعدة دولية حقيقية لاستقرار العراق، وليست مساعدة رمزية كما تفعل الأمم المتحدة حالياً، وليس بالسير بتلكؤ نحو هذا الهدف كما تفعل واشنطن.
مناكفة واستفزاز
وفي مقابل العروض والمبادرات الروسية بالتعاون، تجد موسكو أنه كلما حدثت أزمة بين روسيا وجورجيا أو أوكرانيا، يشعر الروس بأن الغرب يقف مع الطرف الآخر ويكيل الانتقادات اللاذعة لروسيا. ولا يكتفي الحلف الأطلسي بإقامة قواعد في رومانيا وبلغاريا بعد بولندا والتشيك وينصب درعاً صاروخية، ويدعم استقلال كوسوفو عن صربيا، بل يناشد جميع الدول المجاورة عدم شراء الطاقة من روسيا والسعي إلى إيجاد بدائل لعزلها اقتصادياً. وحجة الغرب في ذلك أن روسيا قد تلجأ لعقود النفط والغاز كأداة ضغط سياسي وتقطع الإمدادات في أوقات الأزمات. وترد موسكو على ذلك بالقول إنها لم تقطع الإمدادات إبان الحرب الباردة، فلماذا تقطعها بعد الانفراج الدولي؟ لكن ما حصل في مناسبتين، أن أوكرانيا كانت لا تسدد قيمة المشتريات بأسعار السوق، وتريد أن تستحوذ على دعم روسي بينما تناصب كييف موسكو العداء.
وهنا تساءل تشوركين: «ماذا لو شنت موسكو حملة مطالبة كندا بعدم التعاون مع الولايات المتحدة تجارياً؟ أو أنها انتقدت الجدار العازل الذي تقيمه جنوباً عند حدود المكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية؟». وأضاف أن الولايات المتحدة يجب أن «تقدِّر قيمة روسيا شريكاً في القضايا الصعبة مثل الشرق الأوسط. ثم كيف تستطيع واشنطن التعامل مع الملف الإيراني بدون مساعدة موسكو؟».
موسكو تقول إنها لا تسعى للتنافس مع الولايات المتحدة، فهي ليست بحجمها الاقتصادي ولا بسطوتها السياسية. وترفض العودة إلى التنافس على النفوذ كما كان الحال إبان الحرب الباردة. لكنها بالقطع لا تشعر بالرضا من تجاهلها التام من الغرب، والعمل على مضايقتها. وتشكو أن واشنطن لا تؤمن بالشراكة، بل بالتبعية، لكن روسيا، بضخامتها تبقى أكبر من أن تضمر لكي تكون مجرد تابع سياسي أو قاعدة عسكرية بالرغم من التسامح والتعاون الذي تبديهما.


«الأطلسي» يعرض لروسيا رؤيته لـ«القوات التقليدية»
كشف حلف شمالي الأطلسي أول من أمس، الاقتراحات التي قدمّها إلى روسيا في خريف العالم الماضي، للخروج من مأزق تجميد موسكو العمل بمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا.
وجاء في «إعلان» للحلف أن «الولايات المتحدة المدعومة من جميع أعضاء الحلف، طرحت في خريف 2007 عرضاً يستجيب للهواجس التي عبّرت عنها روسيا في شأن معاهدة القوات التقليدية في أوروبا».
وتقضي هذه المقترحات، بحمل بلدان الحلف الأطلسي على توقيع معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا المسمّاة «معدلة»، والتي اقترحتها روسيا، على أن تتخذ موسكو في المقابل مجموعة من التدابير بدءاً بالانسحاب من مولدافيا وجورجيا. وحذّر من أن «تعليق روسيا يهدّد بتآكل سلامة نظام القوات التقليدية في أوروبا ويزعزع التعاون بين الناتو وروسيا ويقوّض الأمن في أوروبا».
وكان الكرملين قد برّر «تعليقه» العمل بالمعاهدة برفض بلدان الحلف التصديق على النسخة الجديدة من المعاهدة، حيث لم تعد القديمة بنظره «متناسبة» مع الواقع الروسي المختلف عن الظروف التي وقّعت فيها المعاهدة.
وعبّر رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي عن اعتقاده بأن بلاده وأوكرانيا «جاهزتان أكثر من أي وقت مضى لتحقيق اختراق جيوسياسي عظيم باتجاه أوروبا»، مشيراً إلى أن معظم الدول الأعضاء في الحلف تؤيّد انضمام تبليسي إليه، وخاصة الولايات المتحدة.
(رويترز، أ ف ب، يو بي آي)