رام الله ـ فراس خطيبمخيم الأمعري في رام الله يختصر حال اللجوء الفلسطيني منذ يوم النكبة إلى اليوم. بين ثناياه مشاهد تروي القصة كاملة، قصة معاناة فلسطينية مع الاحتلال والاستشهاد والاعتقال وتمسّك بحق مقدس للعودة

اكتظاظ سكاني وبطالة... واقتحامات إسرائيليّة باتت جزءاً من المشهد الليلي


الشارع الرئيسي في مخيم الأمعري للاجئين، الواقع على أراضي البيرة المحاذية لمدينة رام الله، لا يتعدى ثلاثة أمتار. تتفرغ منه، كما في كل مخيم، زقاقات تكسرها مداخل بيوت. صور لشهداء وأسرى على اليمين واليسار. أزمة سير تصنعها سيارتان، حوانيت مغلقة، وأخرى كأنها مغلقة، بناء ليس منتظماً، إلى جانبه مقاهٍ ومطاعم تحيي المكان قليلاً، لكنّها تظل حياة بمفهوم المخيم. أطفال المخيم، بطبيعتهم، يرفضون الاستسلام، تراهم يصنعون واقعاً خاصاً بهم، فيبتسمون، هم، كما في كل مكان، الأمل الآتي.
هكذا، كل المخيمات الفلسطينية تتشابه. من يعيشها، من يشاهد صورها أو يقرأ عنها، من يطرقها بين الحين والآخر، يدرك أنّها صورة مختزلة عن قضية. ومن يكثّف اللحظات في تفكيك ملامحها، يعِ أيضاً، أنّ ملامحها ثقيلة، ترواح، أينما حلّت، بين الصعبة والأصعب. هي القضية بمأساويتها، وبصمودها أيضاً.
يقع «الأمعري» في محافظة رام الله، إلى جانب المدينة. هو واحد من من 27 مخيماً لاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة، يسكنه سبعة آلاف لاجئ موزعين على 94 دونماً فقط. كثافة سكانية عالية جداً، حالها من حال المخيمات الفلسطينية. لكن الاكتظاظ في الأمعري يظل أقل حدة ووطأة من بعض مخيمات اللجوء الفلسطينية الأخرى، فمخيم الشاطئ في غزة، مثلا، هو المكان الأكثر اكتظاظاً في العالم، يسكنه 74 ألف إنسان على 500 دونم.
سكان الأمعري فلسطينيون هُجّروا قسراً من بيوتهم في نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، غالبيتهم من سكان القرى الواقعة على ساحل فلسطين، من قضاء اللد والرملة ويافا وغيرها. الناس هناك لا يعيشون التاريخ، لكن التاريخ في الأفق دائماً، حين تقول إنك من هناك، «من الداخل»، من حيثما هجروا قسراً، تنهال الأسئلة عليك من حيث لا تدري. يريدون أن ترسم لهم صورة، عن الواقع اليوم. عن السياسة وعن المكان بعد 59 عاماً.
صورة عرفات
صورة الرئيس الراحل أبو عمّار، هي الأكثر وضوحاً، في مطعم أبو زياد، وسط مخيم الأمعري، يجلس أبو زياد إلى إحدى الطاولات، صعب الملامح، نظارتاه عريضتان وجسده أثقل من عمره الذي تعدّى الثالثة والسبعين. حين يأتي زبون، ونادراً ما يأتي، يتحرك أبو زياد متعباً نحو البسطة، من هناك، من حيث يعمل، يقول إن «الغلة اليومية لا تكفي لطبخة البيت»، لكنه لا ينسى قول «الحمد لله».
في حديثه مأساة واقعة، وأمل ممكن أن يأتي. يروي أبو زياد عن يوم التهجير: «وصلنا إلى هنا لا نملك شيئاً. نمنا في الكنائس والمساجد ومن بعدها بنت لنا وكالة الغوث خياماً. كان البرد قارساً. أذكر يومها كيف أثلجت الدنيا، وهدمت الخيمة علينا من الثلوج، صرنا نصرخ ونصرخ، ولا يسمعنا أحد». استشهد ابنه البكر زياد في الانتفاضة، واقتلعت عين ابنته الثانية، وزوجته مقعدة، لا يكثر في الحديث عنهم إلا للشكوى.
يندب حظه، يتذكر ما جرى في غزة وما يجري «ظلمونا فظلمنا أنفسنا. منذ أن مات الرئيس (ياسر عرفات) متنا من ورائه، يتصارعون على كرسيّ، والشعب جائع لا يجد ما يأكله، مخجل». كان غاضباً، كلما رفع صوته، ازداد صوته اختناقاً، وتابع «لم أر يوماً أبيض بحياتي، هل هذه حياة؟».
تحاول أن تغير الموضوع قليلاً، أن تعيده إلى مكان هادئ، إلى عنّابة، من حيث أتى، فيهدأ، ليتأمل، «كان لنا بيت وأرض وساحة وماشية. نزرع الأرض ونأكل من خيرها. لم نأكل الكثير من اللحوم، لم نكن أغنياء لكننا مستورون». لكنه سرعان ما يعود إلى الذاكرة السوداء، حين كان يسمع أهالي القرية عن المجازر التي تنفذها العصابات الصهيونية في دير ياسين وغيرها من القرى القريبة، «كنا نسمع عن اغتصاب وتنكيل ومجازر، كل من كان له بنت ترك القرية»، لكنه يضيف «مع كل هذا، لو كنت واعياً لما تركتها».
البحث عن مطلوبينالأمعري عنوان للجيش، عنوان للاحتلال، صار الجيب العسكري جزءاً من المشهد الليلي للمخيم، الاعتقال لا ينتهي في الليلة ذاتها، ومن الاعتقال تخرج معاناة أخرى: أسرى كثر في الأمعري، والأسرى قضية بحد ذاتها، تبدأ في المخيم، وتنتهي في سجون الاحتلال المتفرقة في أصعب المناطق.
يروي أبو محمد أنّ جاسوساً دلًّ الجيش عن مكان ابنه المطارد، فاستوقفته وحدة خاصة إسرائيلية في طريق أحد الجبال، حين كان أفراد الوحدة داخل سيارة خضروات، «أسبوع لم نعرف أين هو، إلى أن أخبرنا المحامي بأنه في المسكوبية. سجن هناك 63 يوماً ونقل من بعدها إلى سجن النقب».
التصاريخ للسجون صعبة المنال. التصريح أصلاً للخروج من الضفة إلى النقب يستغرق وقتاً، ومنوط بعشرات القضايا والمعايير غير المفهومة. في أفضل الحالات، تعطى مرة أو أقل في الشهر، «كنا نخرج من الأمعري الساعة الثالثة صباحاً ونلتقيه لوقت قصير في الساعة الثانية عصراً، مرارة الحواجز والأسئلة والتفتيشات، في وقت الطريق لا تستغرق ثلاث أو أربع ساعات، ونعود إلى المخيم عند الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً».
الاحتلال يصعّب الزيارات، بالنسبة للمحتلين، إخوة الأسير «مرفوضون أمنياً إذا قدموا طلباً»، وزوجته أيضاً. يقول أبو محمد «هم يعرفون أن الزوج يشتاق إلى زوجته، أكثر من أمه وأبيه. هم يعرفون أنه بحاجة لحديثها عن الأولاد وعن غيرهم، لكنهم يريدون إهانة الأسير بزوجته ولا يمنحونها تصريحاً. عن أي عدل يتحدث هؤلاء».
أثناء الحديث، مرت طفلة تلف جبينها بكوفية فلسطينية، ألقت السلام على أبي محمد بثقة، فقال «نأخذها معنا عادة لزيارة والدها الأسير».
أبو زياد وأبو محمد، على الرغم ممّا عاصراه في النكبة وما شاهداه أيضاً في المخيم، إلا أنّهما لا يتنازلان عن حق العودة، «هذه قضية لا تقبل المساومة، لا نرضى بأقل منها». من يحدث اللاجئين الفلسطينيين ممن يختبرون صعوبة الحياة، في مخيمات الداخل والشتات، من الشباب والمسنين، يدرك أنّ حق العودة مقدس بالنسبة لهم. هو قضيتهم، حين تحدثهم عن تعديلات وحلول مبتكرة وتعويضات وما شابه، تشعر بأن الكلام لا يروق لهم. بالنسبة لهم «حق العودة مقدس».


«كما ترى عينك»نسبة كبيرة من شبان الأمعري عاطلون عن العمل. الفرص ضيقة. الإغلاق من كل مكان. في هذا المكان، كما في كل مكان في الضفة الغربية، يفهم المرء أن الحديث عن تسهيلات ليس واقعياً، لا يُرى، لا يشعرون به. ليس هذا فحسب، «الوضع ينحدر من سيّئ إلى أسوأ»، والمقهى يشهد.
بداية الأسبوع، وسطه أو نهايته لا يهم، هناك شباب في المقهى دائماً، «نبدأ صباحاً وننهي في الساعة العاشرة ليلاً. عندما نغلق المقهى، يجلس الشبان على عتبته إلى ساعات متأخرة».
الحركة التجارية داخل المخيم معدومة. على مقربة من المقهى ثلاثة محال تجارية مغلقة ومسدودة، عُلّقت عليها صور لشهداء من المخيم، وأسماء لشهداء آخرين.


عيون!
ساعة الغروب تقترب. أطفال يرتدون ملابس رياضية، عائدين من ملعب المدرسة، وشاب يسرع بسيارته القديمة وصوت الموسيقى يخرج منها. فرقة سائحين تتجول في المخيم، أفرادها يلتقطون الصور الفوتوغرافية، ومرشد عربي يتحدث الإنكليزية بحرقةٍ عن أوضاع المخيم. للمفارقة، هم جزء أيضاً من المشهد. أهالي المخيم يعيشون حياتهم، تماماً كما اعتادوا عليها، ليس كما أرادوها، لكنهم يعيشونها وفي عيشهم صمود. الخروج من المخيم ثقيل، يشعر الفلسطيني الخارج منه، القاطن في إحدى زوايا الشتات، بأنّ شيئاً ينقصه، بأن شيئاً لم يستوف حقه حتى الآن. كم كبيرة هي القضية، تراها في تلك العيون التي تراقبك، عن غير قصد، وأنت خارج.


نقطة الضوء لم تسلم!
على باب مخيم اللاجئين تقع مؤسسة نادي شباب الأمعري، عمارة تثلج الصدر، تبعث في المخيم روحاً من لا شيء. المركز قريب من المدخل، نقطة ضوء في أول النفق.
على مدخل مركز شباب الأمعري نصب تذكاري لشهداء المخيم. حركة أطفال وشباب وميكروفونات تدعو لاحتفال تكريم مع إطلالة المساء. الكل مشغول، الكل لديه ما يفعل. داخل المركز كؤوس علقت من مسابقات شارك فيها شباب الأمعري. هذا المركز تأسس عام 1953، بمبادرة من شباب المخيم، لتطوير النشاطات وإحياء المبادرات وترجمتها، وتعزيز الهوية الفلسطينية، وضم 1369 عضواً.
لكن نقطة الضوء هذه لم تسلم أيضاً. أغلق المركز للمرة الأولى عام 1967، حين شن الاحتلال حرباً على المؤسسات أيضاً، وأعيد افتتاحه عام 1973 وأغلق مع بداية الانتفاضة الأولى. افتتح للمرة الثالثة عام 1992، لكن عند اجتياح عام 2002 دمّر وأتلفت محتوياته. ألعاب الأطفال لم تسلم، لكن النادي صمد وحقق إنجازات عديدة في المجالات الرياضية والتربوية والثقافية.
يتحدث شباب القرية عن شباب من الأمعري حققوا إنجازات دراسية وسياسية عظيمة خارج المخيم، «صحيح أن الأوضاع صعبة، لكن هناك من اخترق ومنح أملاً للآخرين، ليس كل شيء أسود».