ربى أبو عموبعد كوسوفو، فتحت الولايات المتحدة الباب أمام مطالبة أقاليم انفصالية أخرى بالاستقلال عن قصد أو عن غير قصد، وتعميق هوّة الخلاف بينها وبين روسيا، لتغدو قضية الأقليات بين واشنطن وموسكو بمثابة «حربٍ عالمية ثالثة، غير معلنة».
ها هي سبحة مطالبة الأقاليم الانفصالية بالاستقلال تكرّ، والمنافسة بين الدول اليوم على قدرة كل منها على شدّ العدد الأكبر من الحُبَيبات إليها.
وسيراً نحو شمال غرب جورجيا في القوقاز وعلى البحر الأسود، تقع المقاطعة الذاتية الحكم أبخازيا. هذه المقاطعة، وإلى جانبها أوسيتيا الجنوبية، تمثِّلان طُعماً مرّاً بين واشنطن وموسكو، قد يعيد اللعبة إلى بدايتها من جديد. ولكن أي لعبة؟ في الأشهر الأخيرة، عارضت صربيا وحليفتها روسيا استقلال كوسوفو، إلا أن الأكثرية الأوروبية إضافة إلى الولايات المتحدة، تمكّنتا من تحقيق الاستقلال. ولكن في ما يتعلق بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فالقضية معكوسة، ترافقها رغبة روسيا بالانتقام الذكي لتاريخها ودورها على الساحة الإقليمية، من الاستفزاز الأميركي، والحليفة جورجيا.
رحلة طويلة من التوترات، رافقت العلاقة بين روسيا وجورجيا، حتى يمكن رسم هاتين الدولتين كزوجين منفصلين، يتشاجران على ضم الأولاد أو الأقاليم الانفصالية. أعلنت أبخازيا انفصالها عن جمهورية جورجيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فأرسلت حكومة تبليسي قواتها في عام 1992 لتنهي «تمرّد الانفصاليين»، إلا أن القوات الجورجية لم تتمكن من ضم الإقليم إليها، فاستطاعت القوات الأبخازية تثبيت استقلاله.
وفي ما يتعلّق بأوسيتيا، فقد طالبت عام 1989، بالانفصال عن جورجيا والتوحد مع أوسيتيا الشمالية التابعة لروسيا، وجاءت ردة الفعل الجورجية ثورة شعبية زحفت على الإقليم لتهديده إذا ما أعلن الاستقلال، وانتهى الأمر بمقتل عشرات الأشخاص وجرح المئات.
وفي نهاية 1990 أعلنت أوسيتيا استقلالها، إلا أن جورجيا رفضته. وتدخلت قوى خارجية أدت إلى توسيع دائرة العنف الأوسيتي ـــــ الجورجي. وكانت روسيا على رأس هذه القوى، واشتبك الجورجيون والأوسيت في مواجهات ومجازر جماعية خلفت أكثر من 700 قتيل وآلاف الجرحى، إلى أن توقف إطلاق النار في حزيران 1992.
الفترة الراهنة تشهد استكمالاً لتلك التوترات التاريخية، وستُتَوَّج خلال قمة حلف الأطلسي الأسبوع الجاري في بوخاريست، التي من المفترض أن تقدم خطة عمل لعضوية جورجبا وأوكرانيا إلى الحلف، وسط دعم أميركي وقلق أوروبي بسبب الصراعات الانفصالية في جورجيا، التي تجعلها دولة غير مستقرة، وبالتالي يجب استبعادها من العضوية.
أما روسيا فترفض انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الأطلسي، وارتأت دعم استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللتين تطالبان باعتراف دولي على غرار كوسوفو، وألغت العقوبات الاقتصادية ضد أبخازيا، في مقدمة للاعترافه باستقلال الإقليم ومنع انضمامه مع جورجيا إلى حلف الأطلسي.
وقبيل موعد قمّة الأطلسي، عرضت جورجيا منح أبخازيا حكماً ذاتياً كأحد الأقاليم الجورجية، إضافة إلى إقامة مناطق للتجارة الحرة وتمثيلاً برلمانياً وخدمة جمارك موحدة ودمج للأجهزة الأمنية. إلّا أن هذا الاقتراح قوبل برفض أبخازي، إذ قال رئيس الإقليم سيرغي باغابش إن الشعب الأبخازي كان قد تبنى خيار الاستقلال وإقامة دولة مستقلة، معبراً عن أمله لبقاء قوات حفظ السلام الروسية لتحمي إقليمه من «اعتداءات جورجية محتملة».
منذ فترة قريبة، حطت أوّل طائرة ركاب جورجية في مطار موسكو بعد فترة انقطاع دامت 18 شهراً، وكان الطيار يبتسم ويلوِّح بيده لعدسات المصورين. هذه الرحلة أنهت حظراً على السفر كانت قد فرضته موسكو في تشرين الأول من عام 2006 للاحتجاج على اعتقال تبليسي 4 أشخاص اشتبه في أنهم جواسيس روس. خطوة وصفت بـ«الإيجابية» على صعيد صفاء العلاقات بين هذين الدولتين.
إلّا أن كوسوفو عدّل مفاتيح اللعبة بين الولايات المتحدة وجورجيا من جهة، وروسيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جهة أخرى. التصريحات بين هاتين المجموعتين تسابق بعضها مع اقتراب موعد قمّة الأطلسي. فهل تنتزع روسيا الطُّعم من فم الولايات المتحدة، وتجبرها على صياغة قوانين جديدة للحرب المتمثّلة هذه المرة بالصراع على الأقليات، أم تتمكن واشنطن من تجنيد أترابها في الأطلسي لمصلحتها؟