strong>حسن شقرانيلم يستطع التدخّل الحكومي مجاراة «الابتكار» في الأسواق الماليّة، واضطرت الإدارة الأميركيّة إلى معالجة نتائج الأزمة المالية التي انطلقت الصيف الماضي، لكن متأخّرة. وأدّت الفوارق الزمنيّة (الناتجة من استهتار ربّما أو من عدم اليقين من خطورة الوضع) إلى عدم تمكّن «كمّ الدواء المستخدم» في احتواء «فقاعة نوعيّة» (قطاع المنازل ورهوناته العقاريّة) التي خرجت عن طور التقليدي، اخترقت حواجز «وول ستريت»، عصفت بالاقتصاد الكوني، أفلست مؤسّسات استثماريّة عريقة، مثل «بير ستينز» الذي يبلغ من العمر 85 عاماً، وستُدخل في التاريخ الاقتصادي فصلاً جديداً عنوانه: «عندما لم تقدّر أميركا معنى التقنين».
التقنين، الإجراء الموجود عند هامش ضيّق بين «توجيه الاقتصاد» أو تركه لآلة الربح المطلق وآثارها المدمّرة، مثّل كلمة السرّ في خطّة وزير الخزانة الأميركيّ، هنري بولسون، لتدارك عدم تمدّد الأزمة الماليّة التي أدخلت البلاد في مراحل أولى من كساد يهدّد بشكل من الأشكال بركود تضخّمي.
لقد فشلت الإجراءات التي طرحها الجناح الاقتصادي في محيط الرئيس جورج بوش. 167 مليار دولار من الحقن الماليّة، المتمثّلة بإعفاءات ضرائبيّة لتحفيز الطلب، بقيت رهينة «الخوف من المقبل» وانعدام ثقة المستهلك، والتطوّرات التي تشهدها الخريطة الاقتصاديّة الكونيّة، وأسواق الطاقة، وخصوصاً ارتباط سعر النفط أساساً بإحداثيّات المضاربة في البورصات من خلال بدع العقود الآجلة في إطار معقّد تحكمه «ضرورة» تحقيق الربح الأقصى من خلال التعامل بالمشتقّات الماليّة.
كذلك، فإنّ التدابير التي اعتمدها الاحتياطي الفدرالي؛ ضخّ السيولة ومساعدة المؤسّسات الماليّة المترنّحة، وخفض سعر الفائدة إلى مستويات قياسيّة، أرعبت الأسواق رغم أنّ هدفها كان الطمأنة. ويذكر أخيراً أنّ التوسّط في إنقاذ «بير ستيرنز» من خلال التدبير المالي (تأمين السيولة) لشرائه من مصرف «جاي بي مورغن»، أدّى إلى غوص أسواق المال حول العالم في متاهات أكبر من عدم الثقة والتوجّس، تزامن مع تسجيل سعر برميل النفط أرقاماً قياسيّة تاريخيّة وهبوط سعر صرف الدولار إلى مستويات غير مسجّلة.
من الواضح أنّ جميع القيّمين على أسواق المال في أميركا، من القطاعين العام والخاص، أدركوا أنّ «اليد الحرّة» عند مستويات معقّدة من التبادل المالي، بكلّ بساطة ليست ممكنة، لأنّ انعكاساتها السلبيّة، رغم النتائج الرائعة التي حقّقتها في خضمّ التسعينيّات (بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي)، ستستدعي تدخّلاً مباشراً من الدولة، وزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي وهيئات الرقابة، من خلال ابتكار في آليّات التقنين لموازاة ابتكارات السوق، التي اكتشف رئيس الاحتياطي الفدرالي بن برنانكي نفسه، في أوائل العام الجاري أنّه بعيد عن فهمها كلياً، واضطرّ لحضور «جلسات لشرح تعقيداتها».
وهنا تبرز الحاجة إلى «خطة بولسون»، التي طُرحت في وقت متأخّر من ليل أمس. فهي تفترض التخلّص من النمط الجاري من التقنين المالي لمصلحة نظام يقوده عدد أقلّ إنّما أقوى من «المنظّمين»، أي المراقبين الذين يرتؤون في كلّ لحظة تدابير لتقييد «الجموح المالي».
ومن بين تلك الهياكل الرقابيّة الجديدة، هيئة «التقنين المالي المتعقّل»، التي ستشرف على المصارف، الخاضعة حالياً لرقابة 5 مؤسّسات فدراليّة. وستنحّي هيئات أخرى قد تتداخل المهام الجديدة مع صلاحيّاتها، مثل «مكتب الإشراف على التوفير»، على أن تساندها هيئة ضخمة أخرى، تعنى في رقابة «حماية المستهلك» وممارسات الشركات.
أمّا الاحتياطي الفدرالي فسيؤدي دور «شبكة الأمان الحرّة»، حسبما علّق أحد المسؤولين في وزارة الخزانة تحدّث لصحيفة «واشنطن بوست». ستكون له صلاحيّات واسعة، ولكن غير محدّدة للتعاطي في «وول ستريت». وبحسب مسوّدة الخطّة التي نشرتها بعض الشبكات الإخباريّة على شبكة الإنترنت، فإنّ «مسؤوليّات الاحتياطي الفدرالي ستكون ضخمة ومهمّة وصعبة التحمّل». وهذا سيؤدّي إلى تقليص المخاطر الكبرى على النظام المالي. وعلى سبيل المثال سيفرض الاحتياطي على الشركات الاستثماريّة تحسين نظم مراقبة المخاطر التي تتبنّاها.
ويأمل المسؤولون في وزارة الخزانة التوصّل إلى إنشاء «لجنة الابتكار في الرهونات العقاريّة» خلال العام الجاري، من أجل الإشراف على أعمال الشركات التي تمنح القروض المنزليّة وإنشاء معايير وطنيّة تحكم عمل سماسرة الرهونات. وهنا العقدة الأساسيّة وأصل المشكلة الأحدث في الاقتصاد الأميركي: فقّاعة قطاع العقارات، وهي تعبير عن ارتفاع أسعار المنازل بطريقة جنونيّة من خلال منح الراغبين بشراء منازل قروضاً ضخمة أكبر من طاقتهم أو مستوى أدائهم السابق في السوق (القروض العقاريّة عالية المخاطر)، التي انفجرت في آب الماضي لدى وصولها إلى حدود غير محمولة منطقياً.
ولحدّ الآن، كانت جهود الإدارة الأميركيّة لتدارك طرد المقصّرين في دفع سندات قروضهم (هناك 8.8 ملايين عائلة إلى الآن تعاني من «السلبيّة في الأسهم») مرتكزة على المؤسّسة الخاصّة، «الأمل الآن»، لتسهيل عمليّة إعادة التمويل وتعديل الرهونات وتوفير مهل زمنيّة لعائلات على شفير الطرد. و«خطّة بوسلون» تحاول ابتكار «عقد جديد» بين إدارة ليبراليّة بتطرّف والسوق، لممارسة تقنين يجنّب الانهيار. وهي وإن تعبّر عن تشدّد في تدخّل الدولة، تفترض في الوقت نفسه تسهيلات لأسواق الأسهم لابتكار بدع ماليّة جديدة مثل العقود الآجلة المعقّدة ومنتجات ماليّة أخرى!
«الأمل الآن» عالجت النتائج و«خطة بولسون» تحاول معالجة الأسباب، ولكن بتأخّر. مدى النجاح يعتمد على العقيدة الاقتصاديّة للإدارة الأميركيّة المقبلة.