strong>أرنست خوري
إعادة تموضع اسراتيجيّة، بدأت معظم الأحزاب والأطراف الفاعلة في القرار التركي باتّخاذها في أعقاب عاصفة الحملة ضدّ عصابات التصفية السرية المرتبطة بالجيش التركي. الكلّ قرّروا ترك الموقوفين يواجهون مصيرهم. العسكر بدأ حملة مضادّة للدفاع عن نفسه. «العدالة والتنمية» مدّ يده لتقوية معنويات الجيش. «الشعب الجمهوري» بات يزايد من أجل منع هذه الظاهرة... أمّا الحركة القوميّة فتخشى الأسوأ

منذ اللحظة الأولى لإعلان خبر توقيف قادة المنظّمة الإرهابيّة ergenekon، أبرز عصابات «الدولة داخل الدولة» في تركيا، أو «الدولة السريّة» كما تسمّيها الصحف التركية، كان واضحاً أنّ باباً واسعاً فُتح على مصراعيه لوضع حدّ نهائي لحقبة طويلة من نفوذ هذا النوع من العصابات.
منذ الحملة الواسعة النطاق التي تمّ بموجبها اعتقال 35 قياديّاً في هذا التنظيم السرّي ـ العلني في 22 من الشهر الماضي، لم يمرّ يوم واحد إلا وكان يُعلَن اسم جديد من المتورّطين بجرائم ارتكبها التنظيم، أو من المحضّرين لجرائم كان يتمّ الإعداد لارتكابها، ليس أبرزها التحضير لانقلاب عسكري ضدّ حكومة رجب طيّب أردوغان في العام المقبل. سارت الأمور في اليومين الأولين اللذين تليا التوقيفات، وسط تكتّم شديد من المعنيّين في القضيّة: الجيش التركي، المتّهم بإيواء هذه العصابات، فضّل بدايةً التروّي، بعدما نفض يديه من حماية الاسم الأبرز من الموقوفين، الجنرال المتقاعد والي كوشوك.
بعد أيّام، شعرت المؤسّسة العسكريّة بأنّ «الموس» يقترب من عنقها. انتفض رئيس الأركان، يشار بويو قانيت، وأعلن أنّ مؤسّسته «ليست منظّمة إرهابيّة» ولا تؤوي مثل تلك التنظيمات، من دون أن ينفي أو يؤكّد الحقيقة التي يعرفها كل من يتعاطي الشأن التركي، وهو أنّ داخل الجيش والشرطة التركيّين، فرق استخباريّة غير نظاميّة، جرى تأليفها منذ قيام الجمهورية في عشرينات القرن الماضي، يقع على عاتقها تنفيذ «الأعمال القذرة» من تصفيات وجرائم واغتيالات تحت شعار «عدم السماح لأعداء الداخل من مشاركة العسكر» في ضبط إيقاع الحياة السياسية في البلاد.
من جهته، فإنّ «العدالة والتنمية»، الحزب الإسلامي الحاكم، قرّر عدم تصوير الحملة الشاملة على هذا النوع من التنظيمات، وكأنه استهداف للدور السياسي الذي أداه العسكر، ولا يزال، من ناحية فرض إرادته العلويّة على حكّام أنقرة، انطلاقاً من أنه «وريث أتاتورك» و«وكيله الحصري» في حماية القيم العلمانية لتركيا الحديثة والمعاصرة. اقتصر تعليق رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على التوقيفات بالقول إن «الدولة تقوم بعملها». ومع مرور الأيّام، وبعدما امتلأت الصحف بمقالات وتعليقات وتحليلات تصوّب الاتهام إلى المؤسّسة العسكرية، على اعتبار أنها «الرأس المدبّر» لقيام فرق التصفية تلك، استشرف رئيس الوزراء ما قد تنتهي إليه الحملة على العسكر. فهم أنّ الجيش، إذا اشتدّ الخناق حول عنقه، فإنّ ردّ فعله لن يكون متوقّعاً. أردوغان ليس مغرماً بقادة الجيش لا شكّ، فهم لا يزالون يرفضون تأدية التحيّة له عندما تكون زوجته المحجّبة بصحبته. لكنّه خبير في أنواع ردودهم الانتحاريّة إذا شعروا بأنّ نفوذهم مهدّد جديّاً.
خرج أوّل من أمس في خطابه «إلى الأمّة»، وكرّس كلمته كلّها تقريباً إلى هذا الموضوع على حساب قضايا جوهريّة، كقضيّة الحجاب والأزمة الكردية والاقتصاد... أثلج قلب الجنرالات، ودافع عن المؤسّسة العسكرية، معلناً عدم السماح لأحد بـ«ضرب الثقة بمؤسّساتنا الوطنية»، ومعبّداً في الوقت نفسه، الطريق لتأخذ الإجراءات الأمنية والقضائية والاستقصائية مجراها من من دون عرقلة، ومن دون أحكام مسبقة.
طرف آخر اختفى عن ساحة التعليقات؛ حزب الحركة القوميّة التركيّة متّهم بقوّة بأنه «الأب الفكري» للمنظّمة الإرهابيّة ولأخواتها. عدد من الموقوفين ينتمون تنظيمياً إليه، أو مقرّبون منه، أو نواب سابقون عنه. وإذا كُتب للتحقيقات أن تصل إلى نهايتها من دون عرقلة كما حصل في العديد من التحقيقات في الجرائم السابقة، فقد يكون هو المتضرّر الأكبر، وهو الذي يُعَدّ صاحب ثالث أكبر كتلة نيابيّة (70 نائباً) في البرلمان الحالي.
حزب الشعب الجمهوري، شيخ المعارضة في البرلمان (98 نائباً)، قرّر الظهور وكأنه «ملكي أكثر من الملك»، بمعنى أنه، قبل أن يوجّه إليه أحد تهمة «السكوت» على الأقل على وجود هذه المنظّمات خلال عهود حكمه الطويلة، أراد تصدّر المتحمّسين للقضاء على هذا النوع من الخلايا. كشف نائب رئيس الحزب، سفدات سلفي، أنّ كتلته النيابية ستتقدّم بطلب الأسبوع المقبل، بتأليف لجنة نيابيّة «مطلقة الصلاحيات»، مدعّمة بخبراء أمنيين ومحقّقين لكشف العلاقة الموجودة بين موظّفين حكوميّين (إقرأ العسكر) وهذه المافيات، ولـ«حظر تكوين منظّمات سريّة داخل الأجهزة العسكريّة»، كما لإعداد قانون بهذا الصدد، وهو ما يمثّل اعترافاً بوجود مثل هذه المنظّمات حاليّاً.
وكأنّه لم يكن يعلم بوجودها، رأى سلفي أنّ «الميليشيات السريّة في تركيا أصبحت خطراً للغاية»، منتقداً «الحواجز التي وُضعَت أمام لجان التحقيق التي تشكّلت للبحث في جرائم ارتكبتها عصابات جرت حمايتها» من جانب نافذين رسميّين. ولمّا كانت إشارة النائب الجمهوري المعارض، تلمّح إلى اللجان التي انتهت إلى مهزلة في قضيّة «سوسورلوك» حيث اغتيل أحد النواب عام 1996، يمكن القول إنّ كلامه مزايدة لا أكثر، لأنّ العلاقة الممتازة التي تجمع بين قادة حزبه وأصحاب الرتب العسكرية، لا تخفى على أحد، حتّى ‘نّ البعض يسمّي المؤسّسة العسكريّة أنها «الجناح العسكري» للحزب الجمهوري، والبعض الآخر يحلو له قلب المعادلة ووصف الحزب بأنه الجناح السياسي للجيش!
عموماً، ردّ فعل الجمهوريّين يبدو مفهوماً، فالأتراك يعرفون أنّ القيمة السياسية للحملة التي بدأت في 22 من الشهر الماضي، ومن الواضح أنها ستطال عشرات أو مئات المتورّطين «الكبار» قريباً، يمكن اعتبارها لحظة تأسيسية جديدة في تاريخ تركيا المعاصر، وعلى الجميع اتّقاء شرّ الأمواج الارتدادية التي ستسبّبها قضية ergenekon، فما كان «قبل 22 كانون الثاني» لن يبقى نفسه بعد هذه المحطّة الفاصلة.