strong>حسن شقراني
تلفت مرونة موسكو أخيراً في التعاطي مع التطوّرات في جورجيا وأوكرانيا إلى استراتيجيّة بحدّين: تليين الأمور سياسياً تمهيداً للوصول الحتمي لديمتري ميدفيديف إلى الكرملين واحتواء أيّ رفض أوكراني متوقّع و«فيتو» جورجي قائم، لانضمام روسيا إلى منظّمة التجارة العالميّة

انتقال جورجيا في بداية العام الجاري إلى عهد جديد يديره الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، كان ليطرح العديد من التساؤلات عن مستقبل البلاد، في ظلّ انقسام سياسي حاد، أساسه «معارضو الرئيس». انقسام قام في البداية، بعد انتصار ثورة الورود عام 2004، وحفّزه الاستقطاب الذي تمارسه روسيا من خلال حلفائها في البلاد السوفياتيّة سابقاً، أميركيّة الهوى حالياً، قبل أن تُستكمل مفاعيله بالسخط على الإدارة الفاسدة للرئيس وممارسته غير الديموقراطيّة.
غير أنّ خطاب «الزعيم الورديّ» بعد تسلّمه ولايته الثانية، أصبح فجأة براغماتياً: تخلّ عن الحدود الزمنيّة لحلّ النزاع مع موسكو في شأن المنطقتين الجورجيّتين الانفصاليّتين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة (تحوّل الحديث من «مع أقرب بداية عام» مقبل، خلال الحملة الانتخابيّة، إلى العبارة الحذرة: «أيّ وقت قريب»).
إدارة الرئيس فلاديمير بوتين من جهتها اعتمدت اللين نفسه: رحّبت بالتطوّرات السياسيّة في خاصرتها الجنوبيّة الغربيّة، وتمنّت تعاوناً أفضل، بما أنّ «الذي حصل قد حصل» (إعادة انتخاب ساكاشفيلي رغم المعارضة الوطنيّة الضخمة التي لاقت صدى ملحوظاً لدى الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه).
انتقالاً إلى الشمال، أيضاً على الحدود الروسيّة، هناك أوكرانيا ومخاض متجدّد آخر كانت تعيشه ثورة مقابلة: الثورة البرتقاليّة. فقد وصلت السلطة في البلاد إلى حائط مسدود خلال الفصل الأخير من العام الماضي. الانقسام الذي اعتراها، كان قائماً على «صراع» (بقي في حضن المؤسّسات الدستوريّة) بين مؤيّدي «الوفاق المطلق مع موسكو»، بقيادة رئيس الوزراء حينها فيكتور يانوكوفيتش، وبين كتلتي الرئيس فيكتور يوتشينكو ورئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموتشينكو. انقسام حتّم انتخابات جديدة ولّدت «رادا» (مجلس النوّاب) موالياً، بهامش ضيّق جداً، للون البرتقالي الاستقلالي.
وكما حدث في جورجيا، «انتصر» في كييف التحالف من أجل تغيير سكّة الولاء المطلق لروسيا. وتولّت تيموتشينكو رئاسة الحكومة من جديد. وما فعلته موسكو كان أيضاً الترحيب والإعراب عن الرغبة في التعاون مع السلطة الجديدة، بغضّ النظر عن القائد.
ما يمكن استشفافه من نمط التعاطي الروسي المرن مع التطوّرات في البلدين المذكورين (لم تسع موسكو إلى استعمال سلاحها في كلتا الحالتين: الغاز مع كييف، والاضطرابات الأمنيّة على الحدود الجورجيّة) يبرز، على ما يبدو، أنّ الرئيس بوتين، وخلال استعداداته لتسليم السلطة إلى «خليفته»، ديمتري ميدفيديف، في الانتخابات الرئاسيّة في الثاني من آذار المقبل، يلعب على العديد من التناقضات السياسيّة مع الجيران، من أجل تبديد أيّ تناقض قد يواجه القيصر الجديد، في سياسته الخارجيّة، وخصوصاً أنّ الأخير موال لفكرة تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، ومع الغرب بشكل عام.
إلّا أنّ لهذه المرونة الروسيّة جانباً آخر، من حيث الأسباب، قد لا يكون بالأهميّة نفسها، إنّما يطرح تساؤلاً؛ فالتطوّرات الاقتصاديّة الهائلة التي عاشتها روسيا منذ عام 2000، لدى تولّي بوتين ولايته الأولى في الكرملين، تفضي إلى أنّّ هذا البلد، الذي كان شبه معزول (بالتأثير في الحدّ الأدنى) عن العولمة وفقاعتها التسعينيّة، يعود الآن للمطالبة بدوره في النظام الدولي. وخوض غمار هذا الرهان يفترض الانخراط في كل مرافق الرأسماليّة الكونيّة. ومن هذا المنطلق، يمكن مقاربة قبول أوكرانيا في «منظّمة التجارة العالميّة» التي تضمّ أساساً العضو الجورجي.
هذا الانضمام، الذي تمّ الاتفاق عليه نهائياً الثلاثاء الماضي، يؤرّق روسيا الساعية إلى عضويّة في النادي التجاري الكوني، الذي ينظم أكثر من 95 في المئة من التجارة الدوليّة بين سلع وخدمات. ومبرّرات هذا الأرق تقوم على أنّه من المحتمل كثيراً أن تنخرط كييف في «الفئة العاملة» على دراسة طلب موسكو للانضمام إلى المنظّمة، والذي تمّ تقديمه عام 1993، وكان حتى فترة أخيرة لا يزال مرفوضاً بفعل أضواء حمراء سعوديّة وإماراتيّة وجورجيّة.
فرغم نيلها موافقة الاتحاد الأوروبي على انضمامها، في ربيع عام 2004، وكذلك إتمام المفاوضات مع الجانب الأميركي عام 2006، إلّا أنّ «الرفض الثلاثي» المذكور (قد يصبح رباعياً وخصوصاً بعد التهديد الجديد الذي أطلقه عملاق الغاز الروسي «غازبروم» أمس عندما حذّر من أنّه سيقطع الغاز عن أوكرانيا ابتداءً من الإثنين المقبل «إذا لم تسدّد ديونها البالغة 1.5 مليار دولار»)، بدّد حتى الآن أيّ آمال بانضمام قريب.
ولكن انفراجاً قد يريح «التوق!» الروسي للانضمام. فأبو ظبي أعلنت منذ أسبوعين تقريباً، نيّتها إجراء محادثات تجاريّة مع الجانب الروسي، لتنضمّ إلى الرياض التي أعربت عن رغبة مماثلة منذ أشهر. إنّما في المقابل، وفي إطار إعادة التموضع السياسي مع الجار الروسي، سحبت جورجيا في نهاية العام الماضي موافقة كانت قدّمتها للانضمام الروسي، ما شكّل سابقة في تاريخ المنظّمة الدوليّة.
ويمكن الإضاءة على الرفض الجورجي المستجدّ بالطريقة الأمثل، من خلال ربطه بالحملة الانتخابيّة التي كان يقودها ساكاشفيلي. كذلك يمكن توقّع إلغائه، ليتحوّل إلى موافقة جديدة، مع بداية العهد الرئاسي الجورجي الجديد الذي أعربت موسكو عن مباركتها له، وعبّر هو عن نوايا ليّنة في التعاطي معها.
يصحّ الافتراض أنّه ليس لأوكرانيا أيّ موجبات لدحض أي شراكة روسيّة في المنظّمة الدوليّة: أوّلاً، السوق الروسي مفتوح بالكامل للسلع الأوكرانيّة. ثانياً، برنامج يوليا تيموتشينكو، القائم على استعادة «الحقوق الوطنيّة» من خلال مواجهة مشاريع الخصخصة والسعي للحصول على سعر مخفوض أكثر للغاز الروسي، قد يعود بالضرر الفادح عليها ويُخسرها رئاسة الحكومة للمرّة الثانية، بفعل الضغوطات الاقتصاديّة.
كذلك أيضاً، يشكّل انضمام أوكرانيا إلى منظّمة التجارة العالميّة، شقّاً تقنياً جديداً على طريقها المضني من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فليست المشاكل التي يمكن أن تخلقها لانضمام روسيا، جديّة، إلّا إذا دخلت السياسة مجدّداً ميدان الصراع.
النقطة الأخيرة تبدو غير واقعيّة، وخصوصاً في ظلّ التحوّلات التي تبديها موسكو في التعاطي مع كييف وفي الوقت نفسه مع تبليسي: هدّأ بوتين الجبهتين لمصلحة استقرار ولاية ميدفيديف (وهو سيعود عام 2012 ليتسلّم بلاداً هادنت وكسبت مع الغرب لفترة 4 سنوات)، واحتوى انضمام أوكرانيا إلى منظّمة التجارة والـ«فيتو» الجورجي بإبداع في مبدأ «الاستباقيّة روسيّة».