أرنست خوري
قدر عالٍ من الواقعيّة في العمل السياسي يمارسها حزب «العدالة والتنمية»، عبّرت عنها تحالفاته الآنيّة البعيدة عن المبدئيّة والعقائديّة. وآخر هذه «الانقلابات»، نيّته التصويت ضدّ قانون توسيع الحريات للأقليّات الدينية غير المسلمة، والذي سبق أن قدّمه هو قبل عامين، لردّ الجميل للحركة القوميّة التي سهّلت له السماح بارتداء الحجاب في الجامعات

مرّة جديدة، يجد حكّام تركيا من «العدالة والتنمية» أنفسهم أمام مأزق. لا شكّ أنهم كانوا يدركون مسبقاً أنّ الإيجابيّة التي لاقاهم بها حزب الحركة القوميّة في تأمين الغالبيّة النيابيّة لإمرار التعديل الدستوري، الذي بموجبه رُفع الحظر عن ارتداء الحجاب في الجامعات، لم تكن مجّانيّة. ركّب الحزبان تحالفاً في موضوع الحجاب، وها هو الحزب الإسلامي مطالَب اليوم بدفع الثمن؛ فمقابل تلك التسوية، يقف رجال رجب طيب أردوغان أمام نارين في ما يخصّ قانون الأقليّات غير المسلمة في البلاد. من جهة، يصرّ الحزب القومي المتطرّف على تعديل القانون الحالي للجمعيات، والذي يصفه بأنه «قانون الخائن»، لأنه بنظرهم، يقدّم امتيازات غير مقبولة للأقليات، في مسائل حقوق التملّك وتعيين ممثّليهم... باختصار في استقلاليّتهم التي تصل في توصيفهم إلى حدّ «التهديد الكبير للجمهوريّة».
ومن ناحية أخرى، إذا ساير «العدالة والتنمية» حليفه المستجدّ في هذا القانون، فسيواجَه بأوجاع رأس أوروبيّة، بما أنّ أحد الفصول الـ35 التي لا تزال تحول دون تقدّم المفاوضات بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، هو ما تسمّيه بروكسل تعاطي أنقرة «غير المقبول» مع أقليّاتها الدينيّة.
وبحسب المؤشّرات، يبدو أنّ الحزب الحاكم يعرف مدى حاجته إلى استرضاء الحركة القوميّة نظراً للمتاعب التي لا يزال يواجهها من الشارع العلماني العريض على خلفيّة الحجاب. متاعب لم يقتصر التعبير عنها على التظاهرات والجامعات والنقابات، بل وصلت إلى حدّ دعوة زعيم حزب الشعب المعارض، دينيز بايكال، إلى «إسقاط حكومة أردوغان» في الشارع. كذلك فإن أردوغان ورفاقه، يدركون أنّ «معركة الحجاب» لم تنتهِ بعد، وأنهم لا يزالون بأمسّ الحاجة إلى غطاء الحركة القوميّة، صاحبة الـ70 نائباً في الندوة البرلمانيّة، إذ لا يزال تعديل المادّة 17 من قانون التعليم العالي، بحاجة لدعمهم، فيما احتمال الاستفتاء الشعبي على رفع الحظر عن الحجاب يلزمهم بطلب العون القومي.
انطلاقاً من ذلك، ظهر أنّ «العدالة والتنمية» قرّر تفضيل تلقّي الكفّ الأوروبي على حساب تحصين البيت الداخلي التركي.
وسرّب الحزب، عبر وسائل الإعلام المقرّبة منه، إشارات إلى نيّته التراجع عن التعديل القانوني الذي قدّمه قبل عامين، لإعطاء المزيد من الحريّة للأقليات الدينيّة، وبالتالي تأييد النسخة التي يعدّها رئيس الكتلة البرلمانيّة للحركة، فاروق بال، التي تقيّد جمعيات هذه الطوائف غير المسلمة التي لا تزيد أعداد المنتمين إليها على الـ1 في المئة من نسبة سكّان البلاد الذين يزيدون على 70 مليوناً (65000 أرمن أرثوذكس، 23000 يهودي، و2500 روم أرثوذكس). ونظراً لحساسيّة الموضوع، عقد البرلمان جلسة مغلقة أوّل من أمس، مُنع الصحافيّون من حضورها، وستبقى وثائقها ممنوعة من النشر لـ10 سنوات مقبلة. لكنّ صحيفة «زمان» المقرّبة من الحكومة، كشفت أنّ النيّة الأكثر ترجيحاً في صفوف الحزب الحاكم، ترجّح خيار الوقوف إلى جانب الحركة القوميّة، وبالتالي تحمّل تبعات «التضييق» على الأقليّات، أمام الضغوط الأوروبيّة. ولم تغب الانتقادات عن لهجة الصحيفة المذكورة المؤيّدة للإسلاميّين، فرأت أنّ هذه الخطوة ستكون «مقايضة» مع القوميّين في موضوع الحجاب، و«بادرة حسن نيّة» تجاههم. والأكثر غرابة في الموضوع، أنّ القانون الذي تصفه «الحركة القوميّة» بأنه سيكون نسخة أكثر سوءاً، في ما لو تمّ التصويت عليه، في موضوع ممتلكات الأقليات واستقلاليّتها وحقوقها وأموالها، من المشروع الذي قدّمه «العدالة والتنمية» عام 2006، ونال الغالبية البرلمانيّة، لكنّ رئيس البلاد حينها، أحمد نجدت سيزر العلماني المتشدّد، هو من وضع عليه الفيتو الرئاسي الذي حال دون إقراره. أمّا اليوم، فـ«العدالة والتنمية» نفسه سيكون الحائل دون إمرار قانونه!
وإذا صحّت هذه المعلومات، فسيكون أردوغان وحزبه في مرمى نيران الانتقادات التي اتّهمت كل من يعارض توسيع حريات الأقليات، بأنه «شوفيني متعصّب يجعل من الأقليات غير المسلمة رهائن في بلدهم».
وأبرز النقاط التي يرى الحزب القومي أنّها شوائب تنتقص من سيادة الجمهوريّة، لأنّها لا تحترم مبدأ «المعاملة بالمثل» مع ما هو سائد في اليونان تجاه الأقلية التركيّة، يمكن اختصارها بالنقاط الآتية الأبرز:
أوّلاً، في موضوع شروط المواطنيّة: في اليونان، يلزم القانون أن يكون ممثّلو الأقليّة التركيّة والجمعيات التابعة لها، حاملين للجنسيّة اليونانيّة، بينما في تركيا، لا ينصّ القانون إلا على شرط أن يكون هؤلاء من المقيمين على الأراضي التركيّة.
ثانياً، في الشروط الماليّة: في اليونان، موافقة السلطات المدنيّة الرسمية في البلاد إلزاميّة قبل أن تعقد الجمعية الدينية أية صفقة أو قبل أن تتملّك أو تبيع... الحال مختلفة في تركيا، حيث لا شيء يلحظ مثل هذا الشرط.
ثالثاً، في حال وجود خلافات قانونيّة تتعلّق بممتلكات الجمعيات وأموالها في اليونان، فإنّ من حقّ الوزارات التدخّل لحلّ الموضوع، بينما الأمر محصور بالقضاء التركي.
رابعاً، في نوعيّة الأعمال المسموحة لجمعيات الطوائف: في اليونان، يُمنَع منعاً باتّاً أن يكون لأيّ عمل تقوم به الجمعيات الدينية التركيّة، طابع ربحيّ. ويقتصر مصدر تمويلها على أموال التبرّعات والزكاة. في المقابل، فإنّ الوضع في تركيا مختلف، إذ لا يقتصر السماح على أن تزاول جمعيات الأقليات أعمالاً تدرّ عليها أرباحاً، بل يمكنها أن تكون شريكة في مؤسّسات تجاريّة.