أرنست خوري
في الفترة الماضية، طغت تطوّرات أزمة الحجاب على صدارة الأحداث في تركيا. لكن في هذا البلد، لا صوت يعلو فوق معضلة الأكراد. غير أنه، منذ تشرين الثاني الماضي، حين أُبرم اتفاق ضمنيٍّ ثلاثي بين أكراد العراق والأميركيّين والأتراك، يقضي بأن يُترَك مقاتلو حزب العمّال الكردستاني لمصيرهم في الجبال العراقيّة، أفل نجم الأنباء الكرديّة في تركيا. وفي هذه الأثناء، ظلّ رجب طيّب أردوغان يوزّع الإشارات المتناقضة إزاء أكراد بلاده؛ ففيما شجّع على السير قدماً بمحاكمة حزب «المجتمع الديموقراطي»، أو «الجناح السياسي للعمّال» كما يسمّونه حكّام أنقرة، علمانيّين وإسلاميّين، كانت وعود العفو عن التائبين من بين المقاتلين، تغدق عليهم، فضلاً عن إبداء رغبة بتحسين شروط حريّاتهم القومية والثقافيّة، ليس معروفاً إذا ما كانت تنمّ عن قناعة «العدالة والتنمية» بضرورة حلّ الأزمة سلميّاً، أو أنها لا تزيد على كونها رضوخاً للضغوط الأوروبيّة.
لقد عادت الحماوة إلى ملفّ الأكراد بقوّة، إثر أحداث يوم السبت الماضي، الذي شهد تظاهرات كرديّة عارمة، في الذكرى التاسعة لاعتقال عبد الله أوجلان، حيث شهد مقتل فتىً كرديّ يبلغ 15 عاماً من العمر، على أيدي الشرطة التركيّة. لكن، بخلاف معظم التوقّعات، لم يؤدِّ الحادث إلى «أزمة وطنيّة»، بل حصل العكس؛ فعلى عكس عادتهم، لم يتّهم الأكراد القوى الأمنيّة إلا بالمعاملة القاسية للجماهير الغاضبة، وحصروا اتّهاماتهم بعناصر «مدسوسة» في صفوف المتظاهرين سبّبت مقتل الفتى يحيى منكشي. في المقابل، بدا كأنّ أردوغان ردّ التحيّة بأحسن منها، فوعدهم بفتح قناة تلفزيونيّة حكوميّة قريباً تنضمّ إلى المؤسّسة الإعلاميّة الرسميّة الأم، TRT، برامجها تُبَثّ بالكرديّة حصراً، وهو مطلب ثقافي مزمن بالنسبة إلى أكراد تركيا.
وبين الحدثين، خرج وزير الخارجيّة التركي على باباجان ليعيد التأكيد على أنّ خيار الاجتياح البرّي لكردستان العراق «يبقى وارداً للتخلّص من التمرّد الكردي».
هكذا تراوح التعاطي التركي حيال الأكراد، على 3 خطوط: إغراءات ووعود، في مقابل تهديدات عسكريّة، بالتلازم مع عصا القضاء التي تبقى مرفوعة وتهدّد بإقفال الحزب «الشرعي» الأكبر لأكراد تركيا. وفي هذا السياق، وصلت إلى الرئيس عبد الله غول رسالة من 100 مثقّف وأكاديمي يُعَدّون من الأسماء الأبرز في البلاد، ويضمّون مختلف التشكيلات السياسيّة والقوميّة، يطالبونه فيها بالتدخّل الفوري لوقف المحاكمة الحاصلة بحقّ «المجتمع الديموقراطي»، وإيجاد حلّ للأزمة الكرديّة «عن طريق الحوار لا عن طريق رفع مستوى المشاعر القوميّة التعبويّة».
صحيح أنّ في بلد كتركيا، لا يمثِّل «المثقّفون» «اللوبي» الأقوى في التأثير على صنّاع القرار، لكن الرسالة تكشف عن مدى اتّساع وتنوّع القاعدة الشعبية التي تطالب بسياسة حكوميّة تجاه الأكراد، تختلف جذريّاً عن تلك التي اعتُمدَت حتّى الآن من الحكومات العلمانية والعسكرية والإسلامية المتعاقبة.
وإلى جانب رسالة أردوغان التلفزيونيّة تجاه الأكراد، ردّ «المجتمع الديموقراطي» بكلام إيجابيّ، أكّد فيه رفض المساس بوحدة الدولة التركيّة، وذلك عندما وصف نائب رئيس الحزب أمين أينا حادثة إسقاط العلم التركي عن أحد المباني في محافظة سيرناك الكرديّة، التي تطوّرت وأدّت إلى أعمال عنف يوم السبت الماضي، بأنه «عمل استفزازي مرفوض يكبّد قضيّتنا خسائر كبيرة».
رسائل من كلّ اتجاه تبادلتها أطراف النزاع: الأكراد يعرضون ضمناً طيّ صفحة المطلب الاستقلالي في مقابل تسوية تعيد لهم حقوقهم. أردوغان وعدهم بالبدء في طريق التصالح عبر التلفزيون. أمّا الشعب التركي، فطالبت نخبته بحلّ عادل «للمسألة الكرديّة». وفي زحمة الرسائل تلك، قد تعود القطيعة سيّدة الموقف، بما أنّ الجيش التركي لا ينتظر سوى تحسّن الأوضاع المناخيّة لكي ينقضّ على أشقّاء أكراد تركيا في جبال قنديل، على حدّ ما بشّرهم به باباجان.