معمر عطوي
كاد الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أن يحصل على اليوبيل الذهبي (50عاماً) لتربّعه على عرش السلطة في كوبا،لولا أنه ترجّل أمس عن صهوة جواده مستسلماً للمرض وتعب السنين. واكتفى الثائر الهرِم بتسعة وأربعين عاماً قضاها صامداً في وجه الضغوط الأميركية والحصار الدولي

ربما جاء متأخراً إعلان الزعيم الكوبي فيدل كاسترو تنحّيه عن الحكم في الجزيرة الشيوعية، التي تقاوم الضغوط والحصار منذ قرابة نصف قرن. لكن الواقع يشير إلى أن «أبا»الكوبيين كما يلقِّبه شعبه هو خارج السلطة منذ عَهَد بمهماتها «مؤقتاً» إلى شقيقه راوول في 31 تموز من عام 2006 إثر إجرائه عملية جراحية في الأمعاء.
لكن الشيخ العنيد، الذي سقط خلال الأعوام الأخيرة مرتين مغمىً عليه أثناء إلقائه لخطاباته التي اشتهرت بطولها وحماستها، استسلم أخيراً للمرض الذي ألمَّ به منذ سنوات طويلة، وأعلن أمس أنه لا يطمح إلى «تولي مهمات رئاسة مجلس الدولة وقيادة القوات المسلحة».
لطالما كان المحامي الشاب، الذي ولد في عام 1926 في بيران (جنوب شرق كوبا) وسط عائلة من أصل إسباني تعمل بالزراعة، أملاً كبيراً للتغيير ورمزاً من رموز الثورة في نظر ملايين الشباب في العالم. الشباب الذين سحرهم ببزّته العسكرية ولحيته الكثّة والسيغار الكوبي الفاخر، إلى جانب رفيق عمره الثائر الأممي آرنستو تشي غيفارا.
لقد بدأ كاسترو منذ أيام الدراسة ثائراً على التقاليد والسائد. ورغم تعلُّمه على أيدي الآباء اليسوعيين، لم يعرف عنه تدينه أو إيمانه بتعاليم المسيحية. بدأ حياته، مذ تخرَّج في عام 1950 من كلية الحقوق، ناشطاً سياسياً، استطاع أن يؤسس في عام 1952 حركة سرية مسلحة رداً على انقلاب الجنرال فولخنسيو باتيستا.
وكانت مهاجمة ثكنة مونكادا في سانتياغو برفقة 111 من أنصاره في تموز من عام 1953، أول الغيث في مسيرته النضالية. علماً بأنه اعتقل أثناء هذه العملية وحكم عليه
بالسجن 15 عاماً مع 25 من الناجين، بينهم شقيقه راوول.
لكن الرئيس باتيستا منحه العفو في 15 أيار 1955، ونفاه إلى المكسيك، حيث تعرَّف إلى الطبيب الأرجنتيني الشاب تشي غيفارا وأسس معه حركة «26 تموز». ومن هناك عاد على رأس 81 من الثوار، بينهم غيفارا، إلى كوبا على متن «غرانما»، القارب الذي سمَّوا صحيفة الحزب الشيوعي بعد انتصار الثورة باسمه.
وكانت هذه العودة في عام 1956 عبارة عن محاولة إنزال سبَّبت مجزرة لمقاتليه، ما أجبره على التوجه إلى سلسلة جبال سييرا ماييسترا مع 16 من الناجين. عودة قطف ثمارها ليلة رأس السنة 1958ـــــ1959، حين نجح وأنصاره في السيطرة على مقاليد السلطة، وأجبر باتيستا على الفرار من البلاد.
وفي 8 كانون الثاني 1959، دخل كاسترو ورفاقه العاصمة هافانا منتصرين. لكنه لم يكن يومها قد تبنىّ النظرية الشيوعية بعد، بل على العكس. لقد كلّف الرئيس الاشتراكي أحد البورجوازيين بترؤس الحكومة، تفادياً لضربات السياسة الأميركية المعادية للشيوعية. لذلك، سارعت الولايات المتحدة إلى الاعتراف بالحكومة الجديدة.
وفي نيسان من 1959، زار الرئيس كاسترو الولايات المتحدة والتقى مع نائب الرئيس ريتشارد نيكسون، بعدما تذرّع الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور لعدم استطاعته لقاء الضيف الكوبي بارتباطه بلعبة الغولف، طالباً في الوقت نفسه من نائبه التحقق من انتماء كاسترو السياسي ومدى ميوله لجانب المعسكر الشرقي. وخلص نائب نيكسون إلى أن كاسترو «شخص بسيط وليس بالضرورة أن يميل إلى الشيوعية».
غير أن العلاقات الأميركية الكوبية، سرعان ما بدأت بالتدهور منذ شباط 1960، عندما أمَّمَت كوبا الشركات. وبعدما سيطرت الثورة على كوبا كاملة، بدأ بتأميم كل الصناعات المحلية والمصارف وتوزيع ما بقي من الأراضي على الفلاحين، إلى أن أعلن صراحة في عام 1961، أن ثورته اشتراكية.
وكانت الأزمة بين هافانا وواشنطن، قد استفحلت حين باشرت كوبا شراء النفط من الاتحاد السوفياتي ورفضت الولايات المتحدة، المالكة لمصافي تكرير النفط في كوبا، التعامل مع النفط السوفياتي، فأمّم كاسترو تلك المصافي.
وفشلت واشنطن في عملية «خليج الخنازير» التي شارك فيها 1400 من معارضي كاسترو في عام 1961. واقتحمت الجزيرة الكاريبية ميدان الحرب الباردة، حين ظهرت «أزمة الصواريخ» الباليستية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بين 22 و28 تشرين الأول في عام 1962، التي انتهت بخيبة أمل الزعيم الكوبي من النظام السوفياتي الذي سحب صواريخه من كوبا نتيجة صفقة مع واشنطن، رافضاً مطالب حليفه الكوبي بشنّ هجوم نووي على أميركا.
واتّسمت العلاقة بين الولايات المتحدة وكوبا بالعدائية، واستمرت الولايات المتحدة بدعمها لمحاولات اغتيال كاسترو وإطاحة حكمه من دون جدوى.
لكن انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1990 كان له تأثيره السلبي على الجزيرة، الأمر الذي دفع كاسترو إلى السماح باستخدام الدولار وانفتاح اقتصادي بسيط عام 1993. بيد أنه عاد وأمر في عام 2004 بسحب الدولار من التداول.
وربما شعر الشيخ العنيد بأن أميركا اللاتينية قد بدأت تتجه يساراً، فقام بالتحالف مع هوغو تشافيز بعد تسلمه مقاليد السلطة عام 1999.
لقد تحدّى كاسترو المرض الذي أدى إلى وقوعه مغمىً عليه أمام جماهيره في عام 2001، والذي تكرر في عام 2004. لكن هذا المرض تربَّص به واستطاع أن يهزمه في تموز 2006. ومنذ ذلك الحين، يتابع فترة نقاهة لم تنته حتى تخليه نهائياً عن رئاسة كوبا بعد مسيرة طويلة من الصمود والتصدي للحصار والمؤامرات.