strong>حسن شقراني
طوال الفترة التي ترنّح فيها مصير كوسوفو بين الاستقلال والتبعيّة بالقوّة، كانت موسكو تؤكّد عند كلّ منعطف أنّ إقرار صيغة نهائيّة للإقليم الصربي لا يمكن أن يتمّ سوى داخل كنف الأمم المتّحدة، التي تمنح (بمعيار لا يزال إلى حدّ ما يعبّر عن الشرعيّة الدوليّة) أيّ «خيار قومي»، مرجعيّة قانونيّة

إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا جرى تحديداً كما أوحت الإرهاصات، منذ انتخاب هاشم تاجي رئيساً لحكومة الإقليم ذي الغالبيّة الألبانيّة، وطبقاً لمنطق الهجوم الذي اتّبعه و«تهديداته» العالية السقف: الانفصال سيكون قريباً، وعلى الجميع القبول به، وخصوصاً أنّه سيجري تحت مظلّتين: الأولى أميركيّة توفّر التغطية الدولية، والثانية أوروبيّة تمثّلها القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي، وتحديداً فرنسا وألمانيا، مع بقاء موقف بعض الحكومات الأخرى داخل هامش الخوف من الارتداد، مثل حالتي إسبانيا (الخوف من ترجمة النزعة الانفصاليّة في إقليم الباسك) وقبرص اليونانيّة (المتوجّسة من شرعنة إعلان لصيقتها القبرصيّة ــــ التركيّة استقلالاً مماثلاً للدولة الجديدة الواقعة في جنوب شرق أوروبا).
لا شك في أنّ يوم إعلان الاستقلال (17/02/2008) سيعطي صدى أكبر لصرخة القوميّات في العالم كلّه عموماً، وفي أوروبا على وجه التحديد. والسبب بسيط: النزعة القوميّة الديكتاتوريّة للرئيس الصربي الراحل سلوبودان ميلوسوفيتش ألحقت ما ألحقته من ضرر في ما بقي من يوغوسلافيا خلال تسعينيّات القرن الماضي، ورسّخت داخل مخيّلة كلّ ناشد لاستقلاليّة قوميّة، أكان كردياً أم قبرصياً، تركياً أم باسكياً... الظلم الذي تعرّض له الألبان في صربيا.
إلّا أنّ نظرة أشمل لما استجدّ في البلقان توضح أنّ النزعة الانفصاليّة للكوسوفيّين، المحقّة تاريخياً والمغذّاة غربياً، مثّلت ورقة من أوراق النزاع المستمرّ بين «روسيا مستعيدة الأمجاد» والغرب نفسه. وترجمة تلك النزعة إلى واقع معترف به دولياً، حالت دونها عقبات، وضعتها موسكو، منعت مجلس الأمن الدولي من إمرار قرار يمنح الإقليم استقلالاً شرعياً، مثيلاً للقرار 1244 الذي وضع كوسوفو تحت وصاية الأمم المتّحدة بعد حرب عام 1999.
و«انتصار الغرب»، وتحديداً الولايات المتّحدة، في «المعركة الأخيرة!»، يعني انتصاراً لجميع حلفائه (أرادوا ذلك أو لا). وضمن أولئك الحلفاء: جورجيا. ولربّما كان التوازن الذي أُرسي أخيراً بين موسكو وتبليسي على قاعدة القبول بميخائيل ساكاشفيلي رئيساً جورجياً شرعياً رغم صرخات المعارضة، عاملاً يوفّر في هذا السياق توافقاً على مشكلة انفصاليّة أخرى تعانيها جورجيا: جمهوريّتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة.
بعد يوم من إعلان استقلال كوسوفو، خرج زعيما الجمهوريّتين «المستقلّتين بحكم الواقع»، الأوسيتي إدوارد كوكويتي، والأبخازي سيرغي باغابش، لإعلان برنامجين سلميّين يُقدَّمان إلى روسيا ورابطة الدول المستقلة والأمم المتحدة للسير نحو الاستقلال.
والعوائق، بحسب الزعيمين، «ليست من جانب جورجيا فقط». فالجدل القانوني الذي أطلقه الوضع الجديد لكوسوفو، أرسى خطاب الغرب على اعتبار أنّ تجربة الإقليم الصربي هي «فريدة»، ولا يمكن تكرارها في أيّ منطقة في العالم تعاني نزعات انفصاليّة على أسس قوميّة.
الموقف الروسي خرج من دائرة التهويل على جورجيا بدعم الانفصاليّين عند حدودها في نقطتين ملاصقتين لروسيا، واستقرّ عند هامش الغموض. فالأسبوع الماضي، لوّحت إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّ استقلال كوسوفو سيدفع إلى الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة عن جورجيا. وهو ما كرّره مجلسا الـ«دوما» والفدرالية (الشيوخ) بعد يومين على إعلان الاستقلال. وفي هذا السياق، حذّر رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الفدرالية الروسي، ميخائيل مارغيلوف، من أن حوالى 200 منطقة في العالم مستعدة لتطبيق سيناريو كوسوفو، ما قد يجرّ العالم إلى فوضى.
غير أنّ رئيس لجنة الشؤون الدولية في الـ«دوما»، قسطنطين كوساتشوف، شدّد أمس على أنّ روسيا تعترف، «من وجهة نظر القانون الدولي»، بجورجيا ضمن حدودها الحاليّة، لأنّ الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية «سيثير أزمة جدية بين أعضاء كومنولث الدول المستقلّة».
مهما تكن الأسس التي تعتمدها موسكو في المراوغة مع «الحدث في البلقان» وكيفيّة انعكاسه على القوقاز، هناك معطيات لا يمكن تجاهلها، تظهر مدى التشابه بين كوسوفو والجمهوريّتين الجورجيّتين الانفصاليّتين، وفي الوقت نفسه معايير مزدوجة أميركيّة الطابع (لم يكن ممكناً استقلال كوسوفو من دون موافقة أميركيّة، في ظلّ الانقسام الحادث بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن مصيره)، تحاول موسكو تطويعها:
ــــ بعد إعلان استقلالها من جانب قوميّتها الأبخازيّة الصغيرة، انتصرت أبخازيا في الصراع المسلّح مع جورجيا بين عامي 1992 و1993. وتولّت بعثة روسيّة الإدارة من عاصمة الإقليم الانفصالي، سوخومي، حيث «حكومة الجمهوريّة الأبخازيّة المستقلّة» تسيطر على 83 في المئة من المنطقة، بينما تسيطر حكومة موازية موالية لتبليسي، مركزها وادي كودوري، على الـ17 في المئة الباقية من الأراضي.
الوضع نفسه ينطبق على أوسيتيا الجنوبيّة، حيث هناك حكومتان منفصلتان، مع الفارق أنّ تبليسي عمدت العام الماضي إلى إنشاء وحدة إداريّة، يسيّرها قوميّون أوسيتيّون، تتولّى الحوار مع الحكومة الموالية لموسكو من أجل تحديد وضع نهائي للمنطقة.
ــــ في تعقيب على حديث الجانب الروسي عن دعم استقلال المنطقتين الجورجيّتين، قال المتحدّث باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة، شون ماكورماك، إنّ «الروس سيقولون ما يؤمنون بأنّه من مصلحتهم... ونحن نشجّع (الأوسيتيّين والأبخازيّين) على الحوار» من أجل حلّ مشاكلهم.
مثلما تُسقط واشنطن حقوقاً وتنادي بوجوب تطبيق أخرى، تعتمد موسكو المواربة في قضايا النزاع التي تُعَدّ أوراقاً في صراع أكبر: توسيع دائرة النفوذ... والأداة الروسية في حالة كوسوفو كانت «نداءً لتطبيق الشرعيّة الدوليّة!»، وفي حالتي أوسيتيا الجنوبيّة وأبخازيا، سنشهد أدوات أخرى، مفاجئة ربّما.