أرنست خوري
ما هو التوصيف الأدقّ للموقف التركي المستعجل في ترحيبه بإعلان برلمان كوسوفو استقلال الإقليم عن الدولة الصربيّة يوم الأحد الماضي؟ هل يندرج في خانة الدبلوماسيّة، أي ما يعرّفه البعض بأنه «فنّ» إدارة التناقضات، أم هو خطوة مدروسة وازنت ما بين المكاسب والخسائر، ورجّحت كفّة الأولى؟ أم هي واقعيّة سياسيّة تصل حدّ المكيافيليّة بما أنها تعكس من دون شكّ، ازدواجيّة صارخة في المعايير؟
عموماً، الموقف التركي المرحّب بالاستقلال كان الأبرز من بين معظم التصريحات التي وردت من دول لا تزال تعاني في القرن الحادي والعشرين، مشكلة أقليات قوميّة ودينيّة، تمدّدت سرطانيّاً لتصبح حالات انفصاليّة. معظم التعليقات المرحّبة أو المندّدة بالترحيب التركي حيال كوسوفو، توقّفت عند تداعيات الاستقلال على الوضعيّة القانونيّة المستقبليّة للجزيرة القبرصيّة المقسّمة منذ عام 1974 إلى شطرين، التركي منهما لا يزال محروماً من أي اعتراف دولي سوى من أنقرة. غير أنّ القضيّة أكبر بكثير من أن تنحصر في الوضعيّة القبرصيّة. لقد وضع موقف أنقرة من كوسوفو الدولة التركيّة في تموضع دبلوماسي سياسي جديد إلى جانب «أعداء» تاريخيّين، أرمينيا مثلاً. وبالعكس، وضعها في تناقض كبير مع «حلفائها»، روسيا وأذربيجان نموذجين.
وتركيا، التي تعاني مشاكل دبلوماسيّة لا تقلّ تعقيداً عن الهموم الداخليّة، محاصرة بالمطالب الانفصاليّة من جميع الجهات، وحتّى داخل البيت. قبرصيّاً، الوضع معروف. أمّا جنوب شرقها، فمكتظّ بأكراد أتراك يريد جزء كبير منهم تاريخياً الاستقلال. وعلى حدودها مع بلاد الرافدين، كابوس مستمرّ من أكراد العراق بتحويل إقليمهم إلى دولة. أمّا على حدودهم مع أرمينيا وأذربيجان، فلهم حصّة كبيرة من الخلاف على المطلب الاستقلالي القديم لسكّان إقليم ناغورني كاراباخ عن الدولة الأذرية، المدعومين من الأرمن، وهو ما ترفضه أنقرة بشكل قاطع لحسابات عديدة، من ضمنها الرغبة الدائمة بدعم أي شيء قد يغيظ الأرمن.
في جميع الحالات الاستقلاليّة المرفوضة تركيّاً، يأتي الترحيب بالولادة القيصريّة لكوسوفو، انعكاساً لازدواجيّة في المعايير تسكن السياسة الخارجيّة لأنقرة. قراءة سريعة للخلفيّات المحتملة للقرار التركي، قد تزيل بعض الغشاوة عن الصورة المعقّدة:
ــــ أوّلاً، قليلون هم من يعزلون الترحيب التركي باستقلال كوسوفو عن الرحلة التركيّة المتعثّرة نحو العضويّة في الاتحاد الأوروبي. فإذا كان صحيحاً أنّ تركيا اتجهت منذ 2002 شرقاً، فإنّ ذلك لا يعني أبداً إغفال الحلم الأوروبي. مسك الاتحاد الأوروبي العصا من وسطها، وترك الحرية لأعضائه الـ27 في اتخاذ الوضعية المناسبة حيال الدولة الوليدة، فقامت تركيا وزايدت على العواصم الأوروبية الثلاث الأكثر وزناً، برلين وباريس ولندن، التي سارعت إلى الاعتراف وحتّى إلى تسمية سفراء لها في بريشتينا. وبالتالي، قد يكون للترحيب التركي بعد أوروبي واضح، من ناحية القول للأوروبيين: لا تنسوا لنا موقفنا التاريخي هذا، واعترافكم بفضلنا لا يُصرَف إلا بلفتة أوروبية في تسريع وتيرة المفاوضات بيننا بشأن الفصول الـ35 العالقة.
ــــ ثانياً، من مصلحة تركيا أن تنشأ دولة ذات غالبيّة سكّانيّة مسلمة جديدة في قلب أوروبا. فهذه الدولة ستبدأ بالمطالبة آجلاً أو عاجلاً بالانضمام إلى مؤسّسات الاتحاد. وعندها تأتي ساعة الحقيقة بالنسبة إلى مسيحيّي الاتحاد الذين يرفضون انضمام تركيا إلى ناديهم بحجّة رئيسية هي اتّقاء «خطر» دخول 70 مليون مسلم دفعة واحدة إلى بيتهم. فإذا كانت تركيا دولة آسيويّة أساساً، تكاد تلامس القارّة الأوروبية جغرافياً من خلال منطقة ضيّقة (إسطنبول)، فإنّ كوسوفو، كما هي الحال مع البوسنة والهرسك وألبانيا، دول «إسلاميّة»، لكنّها تقع في قلب أوروبا. ولذلك، فالموقف الأوروبي السلبي من قبولها سيكون ضعيفاً، وبالتالي سيسري الوضع على تركيا أيضاً.
ــــ ثالثاً، سيأتي يوم يصف فيه حكّام تركيا الفرحة العارمة التي غمرتهم من النتيجة التي أتت بها الدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة القبرصيّة (الأحد الماضي). فكلّ من زعيم الحزب الشيوعي (أكيل) ديميتريس خريستوفياس وقائد اليمين يوانيس كاسوليدس، أطاحا الرئيس الحالي تاسوس بابادوبولوس. ونظراً إلى أنّ بابادوبولوس عُرف عنه التشدّد إزاء شروط توحيد شطري الجزيرة، تعرقلت خطّة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، وبالتالي بقيت العلاقة القبرصيّة ــــ التركيّة شديدة السلبيّة. أمّا خريستوفياس وكاسوليدس، فهما على درجة واحدة من «الانفتاح» في قضيّة الاستعجال في توحيد الشطرين تحت سقف مساواة أتراك قبرص ويونانيّيها.
هكذا، قد تكون أنقرة تعوّل على إيجابيّة الرئيس القبرصي المقبل، لإنهاء مشكلة استقلال أتراكها القاطنين شمال الجزيرة من دون أن تكون خاسرة من هذه الوحدة.
يمكن القول إنّ 17 شباط 2008، كان فألاً حسناً بالنسبة إلى حكّام تركيا: من جهة، دولة مسلمة جديدة وُلدت في قلب القارّة العجوز؛ ولادة سمحت لأنقرة بالتعبير عن مدى تماهيها الدبلوماسي مع الموقف البريطاني والألماني والفرنسي المرجّح في اتّخاذ القرارات «الكبيرة» داخل الاتحاد. ومن ناحية أخرى، خسر رئيس قبرصي تعهّداً بعدم التنازل قيد أنملة، ما دام في الحكم، عن أيّ مطلب لأتراك جزيرته. أمّا، مشاكل الأكراد وناغورني كاراباخ، فستحظى بما يكفي من الاهتمام... دعوا الأتراك ينعمون بنشوة النصر.