أرنست خوري
إقرار برلمان تركيا لقانون الجمعيّات للطوائف غير المسلمة، بغالبيّة 242 صوتاً في مقابل 72، ليس تفصيلاً. البعض قد يراه أهم حتّى من إلغاء الحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات. إقرار يحمل في طيّاته دلالات مراجعة للتاريخ والجغرافيا والعلاقات الأوروبيّة ـــــ التركيّة. خطوة تندرج ضمن مشوار «قطيعة» تاريخيّة سارت به حكومة رجب طيّب أردوغان لبناء تركيا «جديدة»، قائمة على مصالحة مع تاريخ علاقة البلاد مع محيطها (الشرقي العربي)، وناسها (الأتراك والأكراد)، وإرثها (العثماني)، ودينها (مسلمون وأقليات).
أوّل ما يحمله القانون الجديد، اعتراف تاريخي بخطأ مصادرة أملاك وأراضي وأموال الطوائف اليونانيّة وغير المسلمة عموماً عام 1974 على الأراضي التركيّة. مصادرة حكمت بها محكمة الاستئناف العليا، انتقاماً من التدخّل العسكري اليوناني في قبرص في ذلك العام، وتقسّمت على إثره الجزيرة القبرصيّة إلى شطرين.
ثاني معطيات القانون، مفارقة؛ فالحزب الإسلامي الحاكم، «العدالة والتنمية»، أظهر من خلال إقراره للقانون المذكور، مرونة غير معروفة عند الأحزاب الإسلاميّة، حتّى العصريّة المعتدلة منها. فرغم أنّ الطوائف غير المسلمة التي يشملها القانون الجديد، لا يزيد عدد أتباعها على 100 ألف من أصل 70 مليون تركي، سعى حزب أردوغان إلى إعطائها حوافز وحريّة تصرّف وتعاقد وبيع وشراء و«متاجرة»، غير موجودة في الكثير من الدول المسيحيّة في أوروبا.
ثاني وجوه المفارقة أنّ الأحزاب القوميّة العلمانيّة (الموجّهة ضدّ الإسلام أساساً)، تصل في رفضها تحرير الأقليات من القيود الدولتيّة، إلى حدّ الاقتراب من مدرسة فلسفيّة أسّسها البريطاني Guillaume dOccam (1285 ـــــ1347). مدرسة فكريّة تقوم على أنّ الدولة يجب أن تطبق قبضتها على المؤسّسات الدينية، بعكس مبدأ العلمانيّة القائمة على رسم حدود فاصلة بين الحيّز الديني والحيّز السياسي، مع إبقاء الاحترام والاستقلاليّة لكل من الحيّزين. إذاً، القانون الجديد الذي أُقرّ يوم الأربعاء الماضي، قرّب تركيا من الممارسة العلمانيّة الحديثة، وأبعدها عن الممارسة السابقة «العلمانيّة» بالاسم، والتي تسخّر الدين تحت تصرّف الدولة جوهريّاً.
ثالث معاني القانون الوليد، ضرب لإحدى ركائز وإنجازات الرمز الأوّل للبلاد، مصطفى كمال أتاتورك: «معاهدة لوزان» عام 1923، وهي تعديل لـ«معاهدة سيفر» (1920)، التي يراها الأتراك، رمزاً لإذلال بلادهم بما أنها كانت بمثابة عقاب لأنقرة الخاسرة من الحرب العالميّة الأولى. عقاب جرّدها من أراضٍ عثمانيّة لسوريا (لواء الإسكندرون) والعراق (محافظة الموصل)، ولإيطاليا، ولليونان ولأرمينيا، ورتّب عليها غرامات ماليّة هائلة... أتاتورك في لوزان 1923، أعاد الهيبة بعد انتصاره في حرب الاستقلال مع اليونان (1919ـــــ 1922)، ومن ضمن بنود الاتفاق الجديد، انتزع حقّ المؤسّسات الحكوميّة وضع يدها على ممتلكات وأصول الطوائف المسيحيّة ومراجعها اليونانيّة والأرمنيّة.
رابع التداعيات التي ستظهر قريباً عن إقرار القانون، أوروبيّ. الاتحاد الأوروبي، وعلى لسان مسؤول توسيعه، أولي ريهن، سارع إلى إبداء إعجابه بالإنجاز الذي حصل.
خامسة النتائج التي ستظهر قريباً، ستكون على مستوى البطريركيّة الأرثوذكسيّة اليونانيّة في البلاد. القانون مهّد الطريق جدّياً لإعادة افتتاح معهد «هالكي» الديني في جزيرة هايبليادا، وهو الذي يُعنَى بتدريس الطلاب اللاهوت وتخريج الكهنة والرهبان. الخطوة ستفتح سريعاً الباب أمام إعادة الصفة العالميّة المسكونيّة للكنيسة.
القانون لحظة تاريخيّة مؤسِّسة لـ«تركيا جديدة». ولأنها تاريخيّة، وجدت معارضة من كلّ الأطراف المعنيّة بقانون الجمعيات: الحركة القوميّة التركية وحزب الشعب الجمهوري سارعا إلى اعتبار القانون خرقاً للسيادة التركيّة. وبدورها، اعترضت معظم الطوائف التي طالها القانون، تحت حجّة أنّ القانون الجديد لم يُعِد لها الممتلكات التي كانت تعود لها وصادرتها الدولة قبل أن تبيعها لطرف ثالث.
هكذا هي الأحداث المؤسّسة في التاريخ، لا تنال رضى إلا القلّة. وتركيا لا تشذّ عن سنّة التاريخ.