بول الأشقر
تبدأ اليوم مرحلة جديدة من الثورة الكوبيّة. ميزتها الأولى اختيار رئيس جديد يخلف الزعيم التاريخي فيديل كاسترو، الذي تنحّى قبل أسبوع. شقيق فيديل، راوول، سيكون الرئيس الجديد. مهمّته الأساسية ستكون التوفيق بين نظام متطوّر من الخدمات الاجتماعية واقتصاد دولة غير منتج ونظام سياسي سلطوي. وما يستدعي التدقيق في هذه المرحلة هو تحديد وتيرة التغييرات الضرورية وعمقها بين كل من هذه المجالات

يتمتع المجتمع الكوبي، على صعيد الحماية الاجتماعية، بالنسبة الأدنى لوفاة الرضع في أميركا اللاتينية وأعلى نسبة حياة يمكن مقارنتها بالدول المتقدمة. كلّ الأطفال يتلقون ليتراً من الحليب يومياً وكلّهم يذهبون إلى المدرسة، ما جعل منظمة «الأونيسكو» تصف الجزيرة الشيوعيّة بأنّها «أوّل أرض متحرّرة من الأمية». ويضاف إلى ذلك خلوّها من الفقر المدقع.
إلّا أنّ هذه الإنجازات الاجتماعية قد تصبح مهدّدة إن لم يتطوّر بشكل مواز الوضع الاقتصادي. فقد عرف الاقتصاد الكوبي انتكاسة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ تراجع الدخل القومي بين عامي 1989 و1993 بنسبة 35 في المئة، وانهار الاستهلاك الغذائي بنسبة 50 في المئة ووصل التقنين الكهربائي إلى 14 ساعة يومياً.
هذا الوضع المأساوي أدّى إلى انفتاح منظّم: من جهة، قوامه تحفيزات للاستثمارات الأجنبية في مجال السياحة خصوصاً. ومن جهة أخرى تسهيل المبادرات الخاصّة للمواطنين. ومن ضمن الخطة المعتمدة في بث جرعات من اقتصاد السوق في آلة تبالغ في المركزية، سُمح بالتداول الحرّ بالدولار، الذي تحوّل عام 2004 إلى التداول الحر بـ«البيزو القابل للصرف» أي الذي تساوي قيمته دولاراً.
ويتعايش اليوم في كوبا نوعان من العملة: البيزو العادي وقيمة كل ألف بيزو حوالى 40 دولاراً، و«البيزو القابل للصرف» وتوازي قيمته دولاراً واحداً. وهذه الازدواجية تطرح على المجتمع الكوبي مشاكل تنخر أسس نظامه الاجتماعي، إذ في بلد يساوي المعاش الوسطي فيه حوالى 15 دولاراً شهرياً، ويتلقّى فيه الأستاذ الجامعي أو الطبيب الجرّاح ما يقارب 40 دولاراً، يستطيع موظف الفندق أن يراكم 3 أضعاف ما يجنيه الجرّاح بواسطة «البقشيش» الذي يتلقاه من السيّاح. وتتطلّب معالجة هذه المشكلة رفع مستوى إنتاجية الاقتصاد الرسمي كمقدمة ضرورية للتفكير في إعادة توحيد العملة.
إلى جانب مسألة ازدواجية العملة، يعاني الاقتصاد الكوبي من أزمة زراعية تجعله يستورد حوالى 70 في المئة من المواد الغذائية المستهلكة في الجزيرة.
يرجّح عادة أن تعتمد كوبا النموذج الفيتنامي في المرحلة الانتقالية. وهذا النموذج قائم على اعتماد اقتصاد السوق مع دور مركزي للحزب الشيوعي في المجال السياسي. وحتى إشعار آخر، يبدو النظام السياسي مستقراً، ولكن هناك ثغرات من الممكن رصدها وراء الأرقام الرسمية: اقترع الكوبيون بنسبة 90 في المئة في الانتخابات الأخيرة، ولكن يبقى أن حوالى مليون مواطن رفضوا اعتماد اللائحة الرسمية بحذافيرها. ورغم النظام السلطوي الحالي، لم تعرف كوبا حملة إعدامات كما حصل في دول شيوعية أخرى. وللتذكير، فخلال عام 2003، اعتُقل 75 معارضاً عقدوا اجتماعاً في مكتب المصالح الأميركية في هافانا، ونُظمت لهم محاكمات عرفية وحكم على بعضهم بالسجن 28 عاماً، وقسم كبير منهم لا يزال في المعتقل. وفي العام نفسه أعدم 3 شبّان وُجدوا مسلّحين على متن باخرة كانت تحمل ركّاباً ينوون الهروب إلى ميامي.
يُجمع المراقبون على أنّ للقوّات المسلّحة دوراً حاسماً في تحديد وتيرة المرحلة الانتقالية إذ تسيطر على أكثر من نصف الاقتصاد، ولديها سمعة تعمّقت في تسعينيّات القرن الماضي، تفيد بأنّها مؤلفة من إداريين ناجحين.
ولحلفاء كوبا الجدد دور كبير أيضاً في تحديد طبيعة الإصلاحات، بدءاً بالصين، التي أخذت تستثمر بقوة في قطاع المناجم، مروراً بكندا التي ترسل أكبر كمية من السيّاح، وصولاً إلى فنزويلا التي حلّت محل الاتحاد السوفياتي في تأمين الطاقة التي تحتاج إليها الجزيرة، والتي تدفع 6 مليارات من الدولارات سنوياً في مقابل خدمات 27 ألف طبيب كوبي. والقيمة تشكّل ثروة مالية لكوبا إذا قورنت مثلاً بالمليارين اللذين تجنيهما السياحة وبالـ500 مليون دولار التي يوفرها موسم إنتاج السكر.
ويبقى تأثير المعارضة الخارجيّة الموجودة في ميامي شبه معدوم، ويبدو أنّ الظروف بدأت تنضج للتخلّي عن سياسة الحصار المجرمة في حال فوز المرشّح الديموقراطي إلى الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، باراك أوباما مثلاً، وهو أكّد في مناظرته الأخيرة مع منافسته هيلاري كلينتون استعداده لمفاوضات غير مشروطة مع راوول كاسترو.
أما المعارضة الداخلية، فتأثيرها محدود، وهي منقسمة ومعزولة اجتماعياً، ويُربك أداءها الدعمُ الأميركي المفضوح لقسم من كوادرها. وعموماً، يميل الكوبيّون المستاؤون من الوضع الحالي إلى استراتيجيات تتراوح بين اللامبالاة والتفكير بالهجرة أو الترقّي الاقتصادي الفردي أو العودة إلى الممارسة الدينيّة.
هذه بعض من المعضلات التي ستواجهها القيادة الجديدة بدءاً من اليوم. وقد تأخّرت في التصدّي لها القيادة السابقة. وقد سبق لراوول أن صرّح بوجود كمية من الممنوعات «كانت مبرّرة في الماضي ولم يعد لديها أيّ نفع».
وعموماً سيكون من الصعب ألّا يُقال إنّ من المستحيل ترك الأمور كما هي: وسائل المراقبة السلطوية، الاقتصاد المبالغ في تمركزه، الاعتماد على الـ«بروباغندا» بدلاً من الإعلام. وما يضغط على هذه البقايا المتلاشية عنصران متمايزان: من جهة، تقنيات العولمة التي تجعل كل ذلك بالياً بشكل شبه آلي، ومن جهة أخرى، ضغط ضمني آت من مجتمع متعلّم وجامعي، متنوع ومعقد، وهو نتاج أحسن أفكار ثورة عمرها يناهز نصف قرن... مقبلة على تطوير ذاتها.