القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
الانتماء إلى الإخوان المسلمين أصبح تهمة سياسيّة في مصر بين أعضاء
الحزب الوطني الحاكم. واقع يعزّز الرعب من خطة الجماعة المنظمة لاختراق مؤسّسات حسّاسة للنظام، بدايةً من الحزب وليس بعيداً عن الجيش. وهي خطة لا يدّعي أحد أنّه على يقين منها. اليقين الوحيد هو الرعب منها


«أنت إخوان». هذه أحدث تهمة بين أعضاء «الحزب الوطني الحاكم» في مصر، تكشف عن رعب من اختراق «الجماعة» لمستويات عليا في «الحزب»، وخصوصاً خلال تصفيات داخليّة تحصل حالياً لاختيار المرشّحين للانتخابات المحليّة. التهمة كانت علنيّة وواضحة بين مرشّحَين أحدهما اكتشف علاقات بين المرشح الآخر وتلك الجماعة.
إلّا أنّ الأخطر هو تسلّل الفكرة المرعبة لـ«الجماعة» التي «يمكن أن تحكم مصر من خلال السيطرة على الحزب الحاكم» بعد الملاحقات الأمنيّة والفشل في الحصول على ترخيص ينقلها من الحظر المفروض عليها منذ عام ١٩٥٤ إلى «كيان سياسي» يمارس نشاطه في الضوء وينافس على السلطة. ومن هنا يبدو الاختراق تقنية تدرّب عليها «الإخوان» طويلاً لكسر فكرة الحظر والوصول التدريجي إلى مصانع القرار.
هذه صورة رائجة عن اختراق «الإخوان» وهي تتّسع منذ فترة. والاتّهام بـ«الإخوانيّة» في الانتخابات التمهيديّة للمحليّات ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها الرعب من «السيطرة السريّة». قبلها تسرَّب تقرير عن رصد عدد من «الإخوان» بين المنضمين الجدد إلى حزب مبارك.
قيادات الحزب أنكرت التقرير، غير أنّه لا أحد أنكر فكرة «الاختراق»، وهي فكرة أوسع من الحزب الحاكم، وتصل إلى أنّ النظام الآن أقرب للوقوع تحت سيطرة «الإخوان» وأنّ مؤسّساته تسقط قطعة قطعة أمام خطّة إخوانيّة. إنها صورة متطرفة، لكنّها وجدت من يصدقها في حوارات النخبة عن المستقبل. هناك من ينتظر أن يكون النظام المقبل تحالفاً بين العناصر القوية في النظام الحالي و«الإخوان». وليس غريباً هنا أن يشار إلى أنّ الاختراق وصل إلى الحكومة.
فعقب الجلسة الثالثة من المحاكمات العسكريّة لقيادات الجماعة، قالت ابنة نائب المرشد العام للإخوان خيرت الشاطر، زهراء، في نوبة حماستها للدفاع عن المعتقلين من الجماعة، «أعلم أن هناك الملايين حول العالم يتضامنون معنا. بل وأجزم بأنّه يوجد داخل المؤسّسة الحكوميّة من يتضامن معنا، لكنّهم لا يستطيعون إعلان ذلك». أثيرت أسئلة عن: هل هي مجرد حماسة عاطفية؟ أم أنّه إعلان قوّة؟ أم توريط سياسي؟
زهراء هي ابنة «أمير مال» الجماعة، أقوى قادة «الإخوان» وأذكاهم. وزوجها معتقل أيضاً على ذمّة قضيّة «غسل الأموال». وهي تؤدي دوراً مهماً في قيادة الجناح العائلي. وإشارتها إلى الانقسام في المؤسّسة الحاكمة ليست عابرة، وخصوصاً حين نربطها اليوم بالاتهامات المتبادلة في انتخابات الحزب، أو التخوّفات التي تُقال همساً عن اختراق «الإخوان» للجيش، أو وجود عناصر «إخوانية» نائمة بين القيادات الشابّة في المؤسسة العسكرية. والأقلّ انحيازاً للفكرة يقول إنّ هذه العناصر ليست «إخوانية»، إلّا أنّها تميل إلى «الإخوان» أو إلى «بديل إسلامي» يكون «مزيجاً من الجنرال والأخ الصالح».
إشارات من هذا النوع ظهرت في كتاب للباحث والكاتب الأميركي روبرت ساتلوف عنوانه: «الجيش والسياسة فى مصر مبارك». قال فيه إنّ «التيّارات الإسلامية الأصوليّة بدأت فى إيجاد اختراقات داخل القوّات المسلّحة، وتحديداً بين الرتب المميزة في تشكيلات هذه القوّات، وأدّى هذا بالتالي إلى التأثير على فعاليّة الجيش واستراتيجيّته كماً ونوعاً، الأمر الذي أجبر الحكومة على اتخاذ إجراءات أمنيّة لكي تحول دون انتشار موجة التطرّف الإسلامي، إلّا أنّ هذه الإجراءات لا تزال دون المستوى المأمول من حيث مدى نجاحها».
الموضوع خطير ويثير رعب النخب المدنية في مصر أكثر من نخب الحكم، لأنّ «الإخوان» فرضوا مزاجهم على كل المجتمع بقوّة أنّهم «المعارضة الوحيدة» لنظام يكرهه الناس، لكنّهم خانعون لإرادته البوليسية. أصبح «الإخوان موضة». هذا زمنهم. فرضوا سيطرتهم على حركة التيّارات السياسية باعتبارهم أقدم «بديل إسلامي»، أي الذي يحصل على شرعيّته السياسيّة من الدين.
والدين مهم بالنسبة إلى المصريّين عموماً. ارتفعت أهميّته عندما هُزمت الدولة الحديثة أوّلاً فى ظهيرة حزيران 1967 ودائماً بصعود ثروة البترول من تحت الأرض في دولة لم تكن أكثر من قبيلة. الثروة استقرت فى دولة دينية. وأفواج المهاجرين المصريّين إلى ثروة البترول هاجرت معهم أحلامهم وصورتهم عن الحياة التى يباركها الله، فعادوا بنموذج الدولة ونموذج الزي ونموذج العلاقات. عادوا ممزّقين بين ثقافة مصرية تعترف بالتعدّد في الدين والثقافة، وثقافة بدويّة من الحجاز لا تعرف سوى المذهب الواحد والثقافة الواحدة والصورة الواحدة. ورغم أنّ من أشهر الصور السياسيّة عن المصريّين أنّهم لا يحبّون «الحكّام أصحاب الشرعيّات الدينيّة»، إلّا أنّه في ظلّ عجز المعارضة المدنيّة وتوحّش شهوة الحكم لدى نظام مبارك إلى حدود لانهائية وعدم احترام السلطة لكلّ القوانين والدستور، كان لا بد من معارضة تعتمد على قوانين أعلى وسند إلهي. وبدلاً من توصيفات سياسيّة تضرب بها الحكومات عرض الحائط، استند الناس إلى المقاومة باتهامات «الحلال والحرام» لتشعر ببعض القوة، ولو المعنوية، في مواجهة الوحش الأسطوري للسلطة.
هذا واحد من أسرار الجماعة حتى بالنسبة إلى أعضاء من الحزب الحاكم، يرون أنّ الحزب مجرّد منتخب للفساد واقتناص النفوذ السياسي. ومن السهل لهؤلاء أن يقعوا في هوى «الحكّام الأبرار». كما أنّ اضطهاد «الإخوان» والتعسّف فى مواجهتهم يجعلهم «شهداء» الحركة السياسية. فهم الأكثر تعرّضاً للاعتقال والمطاردة الأمنية.
هذا على مستوى الجمهور. أمّا على مستوى النخبة الحاكمة نفسها فلا مانع من القفز من سفينة السلطة، وتغيير الخطاب إلى الدولة الدينية كما غيّروه سابقاً من الاشتراكية إلى الرأسمالية.
عندما تصل التحليلات إلى هذا الحدّ، تخرج المشاعر عن السيطرة ويسيطر الرعب على التفكير، كما حدث لرجل أعمال بعيد عن الدائرة الضيّقة للنظام، صرخ منزعجاً: «هل نتخلّص من حكم البكباشي لنقع في حكم المرشد... البكباشي أرحم».
ليبرالية رجل الأعمال فضّلت الحكم العسكري على حكم «الإخوان» وهنا نبّهه صديقه: «لكن انتبه قد لا يحكم الإخوان، بل يتحالفون مع الحاكم الجديد بعد مبارك عندما يفاجأ بهم يخرجون من مواقعهم السريّة». صمت الحوار أمام السؤال: «ألم يحدث هذا في نهايات الحكم الملكي وتحالف الجيش مع الإخوان، إلّا أنّه أطاحهم؟». هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال آخر محيّر عن مستقبل مصر.