القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
نظام ومؤسسات يتهربان من تحديد المسؤول عن إضاعة فرص الشباب في حياة كريمة


الخبر الأهمّ في القاهرة اليوم هو هروب عصام الحضري إلى سويسرا. أشهر حراس مرمى منتخب مصر وأفريقيا يترك ناديه الكبير «الأهلي» ويسافر من دون إذن، بعد أيام من تتويجه في غانا ضمن منتخب الأحلام بكأس أمم أفريقيا.
هذا هو الخبر الصدمة ليس فقط لعشاق «الأهلي»، ولكن لكل من تابع صعود النجم إلى قمّة تألقه في مواجهة نجوم كبار تسعى خلفهم أشهر وأغنى أندية العالم. لماذا يهرب معشوق الجماهير الذي تصرخ له في الملاعب والشوارع بهتاف التدليل المحبب: «ارقص يا حضري»؟
الصدمة هنا: لماذا يهرب لاعب كرة قدم استقبله الرئيس وعائلته، وانهمرت عليه هو ومنتخبه هدايا رجال أعمال قريبين من النظام؟ ألم يشعر بمعاني الوطن والدولة وهو في تلك الحضرة الرسمية؟ إدارة النادي تعاملت مع القصة كلها كما تتعامل الأنظمة السياسية التقليدية. اتهمت اللاعب بالخيانة. وروّجت لخروجه عن الطاعة والولاء للبيت الكبير الذي قدمه لملاعب الرياضة. وهي مصطلحات غريبة على قاموس الأندية الرياضية المعتمدة أساساً على علاقة احتراف، أي تعاقد بين النادي واللاعب يضمن مصلحة كل منهما.
هذه العلاقة بعيدة عن الانتماء بمعناه المطلق والعاطفي. لكن «الأهلي» حالة وحده بين الأندية المصرية. «الأهلي» هو مصر. صورة مجازية لكنها قريبة إلى حد كبير من الواقع، فهو مؤسسة رياضية ارتبطت نشأتها بصعود البرجوازية الوطنية في مصر (احتفل بمئويته العام الماضي). وكان من بين مؤسسيه زعيم ثورة ١٩١٩ سعد زغلول. وصورة «الأهلي» السياسية هي النادي الوطني في مواجهة الأندية الأجنبية (أشهرها «المختلط»، الذي سمي بعد الثورة «الزمالك»، غريمه التقليدي من وقتها وحتى الآن).
وإضافة إلى الإنجازات الرياضية، ارتبطت مؤسسة «الأهلي» بتقاليد محافظة بشكل ما، لكنها حافظت على صورة المؤسسة المصرية بشكلها القديم. الصورة تغيرت بعد رحيل صالح سليم، نجم الكرة وأشهر رئيس لـ«الأهلي» في ربع القرن الأخير. شهرة صالح ارتبطت بحفاظه على صورة «الأهلي» كمؤسسة تقترب من العائلة الكبيرة أو الحزب العائلي. ساعدت شخصيته على فرض التقاليد القديمة والأخلاق. وهو ما أعطى شعوراً بالتميز لمشجعي نادٍ يحقق بطولات ويحافظ على القيم في ظل حالة السيولة العمومية المسيطرة على مصر منذ السبعينات وحتى الآن.
لم تنج أغلب المؤسسات من حالة التفكك البطيء. لكن «الأهلي»، وبرعاية الشخص الاستثنائي، أفلت لسنوات. لكن مع غياب صالح سليم غابت التقاليد وإن بقيت صورة مؤسس البطولات والأخلاق. صورة اهتزت أكثر من مرة حين اتفق مسؤولون في «الأهلي» خارج القانون المعلن مع لاعبين وإعارة آخرين، ثم إعادة أو ترك لاعب في الشارع لأنه أصيب، لأن هناك مراكز قوى ترفض استمراره لكي لا يغطي على نجوميتها الاستثنائية في تاريخ النادي والكرة المصرية.
وقائع ضد أخلاق المؤسسة العريقة. ومناخ يلتقطه الشطار والمهرة من أبناء المؤسسة. وهذ ما فعله الحضري. قرر أن يهرب بحثاً عن الفرصة الأخيرة. فالمؤسسة تروّج لأخلاقها ولا تعمل بها. كما انها أنانية تستخدم قيم الانتماء عندما تريد، في حين أنها تعمل ضدها. مؤسسة أنانية لا أمان فيها. لم يصدق الحارس العملاق أن النادي الذي قضى فيه ١٢ عاماً ولعب له بروح «الفانلّة الحمراء» سيمنعه من الفرصة الأخيرة. عمره الآن ٣٥ سنة ولم يبق له في الملاعب أكثر من سنتين أو ثلاث على أكثر تقدير. وحلم عمره في الاحتراف يكاد يتلاشى من أمام عينيه. والنادي العريق يكرر معه لعبة المغالاة في سعره ويرفض مقابلة مسؤول النادي السويسري.
إن سفر الحضري تكريم للاعب أعطى كثيراً، وفرصة لتجديد الدماء ومنح فرص لبدلاء فقدوا الأمل على مقاعد الاحتياط. إنها الفرصة الأخيرة لنجم. كما كان حلم الهجرة هو الفرصة الأخيرة لمئات من الشباب المصري ستروا أحلامهم بطريقة غير شرعية وغرقوا في قوارب الهروب الجماعي.
الحضري القادم من الريف إلى المدينة، ورغم النجومية الطاغية، أدرك بغريزة قوية أن فرصته الأخيرة ستشيع وأنه بعد قليل ستنحسر الأضواء، ووحده سيدفع ثمن الانتماء الزائف، لطريق تسير رغم شعاراتها بمنطق «اخطف واجرِ». اعتذر الحضري للجمهور الذي يمنحه الحب الجارف وبرر مغامرته التي يمكن أن يخسر فيها كل رصيده بالبحث عن الحلم الكبير في حياته.
هكذا كانت رسائل المهاجرين غير الشرعيين قبل القفز الى بحر الهجرة الغامض؛ اعتذارات للعائلة وطلب للدعاء في نجاح آخر محاولة للحياة. الحضري والهاربون لم يخضعوا لابتزاز القيم الزائفة. اختاروا الهروب وبطريقة تصفها المؤسسات بأنها غير شرعية، بينما تمنح اللصوص والقناصين شرعيات مفتوحة.
ليست صدفة أن تطفو حوادث الهروب من مصر وأن تتنوع وتنتقل من شباب محرومين من الحياة الطبيعية إلى نجوم حطموا الأرقام القياسية. حوادث تصدم المؤسسات التي تدافع بالهجوم على الهاربين. استدعى نظام مبارك مفتي الديار ليهاجم المهاجرين غير الشرعيين. وأخرج «الأهلي» جوقته الإعلامية لترسم صورة الحضري ناكر الجميل. ونجحت المؤسسات في تحويل الأسئلة إلى معانٍ أخلاقية، بعيداً عن المعاني السياسية: من أضاع فرص الشباب في حياة كريمة؟
وإذا كانت الثروات في مصر، ومنذ ربع قرن، تتضخم بأساليب غير شرعية وفي حماية النظام السياسي، هل أصبح الخروج عن الشرعية هو القانون الذي يصنع الملايين، والفاسدون أصبحوا محميات سياسية، ووحدهم الفقراء هم المطالبون بمراعاة القانون والإجراءات الرسمية؟
لماذا على الحضري وحده أن يراعي تقاليد ناديه التي نسيها في حمى البيع والشراء؟ الهروب هو مغامرة الشطّار الأخيرة من جحيم المؤسسات في مصر.