صحّت التسريبات التي وردت في الأيّام الأخيرة عن قرار أنقرة سحب قوّاتها من شمال العراق، تحت الضغوط الأميركيّة، ولحسابات تعود معظمها إلى تنامي مخاطر اشتباك الجيش التركي مع أكراد هذا البلد. ففي اليوم التاسع لبدء أكبر عمليّة بريّة وجويّة تشنّها منذ أكثر من عقد على مواقع حزب العمّال الكردستاني ومعسكراته في عمق أراضي كردستان العراق، عادت الحشود التركية المقدّرة بعشرة آلاف مقاتل أدراجها إلى بلادها، ملوّحة بعصا العودة «لاستئصال الإرهاب».
وبدا واضحاً أمس أنّ الممانعة التركيّة العلنيّة لدعوات واشنطن ودول حلف شمالي الأطلسي إلى الانسحاب «سريعاً» من الأراضي العراقيّة، لم تكن سوى رفض لفظيّ. كما بدا أنّ عبارة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، الذي أطلقها وهو يغادر أنقرة أوّل من أمس، «الأتراك فهموا رسالتنا بضرورة إنهاء الحملة سريعاً»، فعلت فعلها بأسرع مما كان متوقّعاً. غير أنّ «العنفوان التركي» صوّر قرار العودة إلى الديار كأنه نتيجة لتحقيق «الأهداف الموضوعية المرسومة»، وهي القضاء على جزء كبير من تحصينات ومعسكرات وكوادر «العمّال الكردستاني».
لكنّ أنقرة، في تبريرها لقرار الانسحاب، قزّمت أهدافها كثيراً؛ فمع دخولها المفاجئ إلى العراق في 21 من الشهر الماضي، حدّدت هدفاً طموحاً لا عودة قبل تحقيقه: القضاء على «الخلفيّة الآمنة للإرهاب الكردي» في جبال قنديل ودهوك. أمس، تراجعت، واعترفت بأنّه «ليس من المنطقي أن تنهي حملة واحدة وقصيرة الخطر الإرهابي الكردي»، فاتحة المجال أمام احتمال العودة: «سنراقب الكردستاني عن كثب، وإذا رأينا أنه يجب العودة إلى العراق لتعقّبهم، سنفعل ذلك في المستقبل». عودة سبق أن لمّحت الصحف التركيّة بأنّها لن تتأخّر أكثر من أسبوعين ريثما ينخفض مستوى الضغط الدولي عن كاهل المسؤولين الأتراك الذين لديهم ما يكفيهم من المتاعب داخلياً ودبلوماسياً.
ونفت هيئة الأركان التركيّة، في بيان، «أيّ تأثير أجنبي على القرار» الذي جاء بعد يوم من دخول جورج بوش على الخط. وذكر بيان على الموقع الإلكتروني لرئاسة الأركان «لم يكن هناك خلاف في شأن تصفية المنظمة الإرهابية تماماً، لكن تركيا أظهرت لتلك المنظمة أن شمال العراق ليس ملاذاً آمناً لها، لذلك تقرّر أنّ الأهداف التي تحدّدت في بداية العملية تحقّقت».
لكن حتّى صحيفة «حرييت» التركيّة المعروفة بخطّها المتشدّد ضدّ «العمّال الكردستاني»، أشارت إلى أنّ شكوكاً تحوم حول ادّعاءات عسكر تركيا بأنهم حقّقوا أهدافهم. وجواباً عن هذه الشكوك، نقلت عن مصدر عسكري كشفه عن أنّ قيادته ترى أنّ إفهام العالم أنّ كردستان العراق «لن يبقى ملاذاً آمناً ومستقلاً للانفصاليّين الأكراد» هو بحدّ ذاته «إنجاز».
وكما بدأت الحملة بموافقة أميركيّة ـــــ عراقيّة، هكذا انتهت. فإعلان عودة القوّات جاء أوّلاً على لسان وزير الخارجيّة العراقية هوشيار زيباري ومن البيت الأبيض. زيباري عبّر عن تفهّم حكومته للأسباب التي دعت تركيا للتدخّل العسكري، شاكراً إياها على «الالتزام بوعد الانساحب الذي قطعته».
اللافت أنّ التمهيد لاجتياح تركي مستقبلي لأراضي كردستان العراق، جاء على لسان المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جوردن غوندرو، الذي أعلن أنّ أنقرة التزمت إنهاء عمليّاتها بسرعة، لكنّه عاد وأعطاها كلّ الحقّ «في التعامل كما يجب مع الحزب الإرهابي حتّى يتخلّى عن الإرهاب»، متعهّداً أن تلتزم بلاده التعاون الاستخباري مع تركيا لتزويدها أهم المعلومات التي من شأنها القضاء عليه.
وعلى الفور، أعلن المتحدث باسم العلاقات الخارجية في حزب العمّال، أحمد دنيس، النصر على الجيش التركي. وعزا الانسحاب إلى «شراسة المعارك». وبعدما أكّد جهوزيّة رجاله واستعدادهم للردّ بشكل «قاسٍ لا يمكن تخيّله» في حال حدوث اجتياح جديد للقوات التركيّة، عاد وأبدى استعداد حزبه لسلوك مسار السلام إذا أوقفت تركيا هجماتها العسكريّة.
(الأخبار، أ ب، أ ف ب، رويترز)