إيلي شلهوب
يروى عن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي في عهد ريتشارد نيكسون، أنه كان يعتمد تكتيكاً معيّناً حيال القيادات السوفياتية في ذلك العصر. كان يحرص على الطلب إلى مساعدي بريجنيف إبلاغه بالمعلومة التالية: لدينا مجنون في البيت الأبيض لا يمكن التنبّؤ بتصرفاته. حجة استخدمها لانتزاع بعض المكاسب، وقد نجح في ذلك.
تكتيك حرم الرئيس الحالي جورج بوش وزيري خارجيته، كولن باول وكوندوليزا رايس، من استخدامه. كان يحرص على أن يقوم بهذه المهمة بنفسه، قولاً وفعلاً، مع فارقين: الأول هو أن غباءه وجهله (هناك إجماع على هذين التوصيفين) يستبعدان فرضية أن يكون ذلك تكتيكاً يستخدمه مدركاً، بل هو جزء متأصل في شخصيته. أما الثاني فهو أنه لم يحصد إلا الإخفاقات، ولم يُنجز إلا مآسي.
جنون يستند إلى مقاربة رؤيوية للعالم، وإلى عقدة نقص حيال والده، الذي يحمل الاسم نفسه (وربما والدته). فجّر أول شحناته في أفغانستان والعراق. انتشى. شعر أنه السيد الآمر المتحكّم برقاب العباد وأرزاقهم، وأن رغباته فرضُ عين، ويلٌ لمن خالفها. «يعلمون ماذا عليهم أن يفعلوا»، عبارة لازمت تصريحاته في شأن من يراها «دولاً مارقة»، وخاصة سوريا وإيران.
جاءت المفاجأة: لم تفعلا. ومعها جاءت الانتكاسات: بلاد الرافدين اشتعلت. بلاد فارس نصّبت على نفسها رئيساً أكثر جنوناً منه. بلاد الشام استعادت هيبتها بعد انكسار. بلاد الأرز أجهضت ثورتها، ومعها عدوان تموز. بلاد القدس انقسمت على نفسها، ولمّا توقف مقارعة الاحتلال. بلاد العروبة تشرذمت...
عندها بات التعديل واجباً: حوار مع طهران أثمر هدوءاً في بغداد، من دون أن يوقف «القطار النووي». وغزل لدمشق (تولّاه «معتدلون» لإبعادها عن المتشددين)، سرعان ما ثبت عقمه في شوارع بيروت. حتى «أنابوليس»، لم ينجح في التحشيد على «الفرس»، ولا في «إغراء» بشار الأسد.
حوار وغزل أفشلتهما تكلفة إنجاحهما. ثمن لا قدرة للولايات المتحدة ولا لبعض العرب على تحمّله، ومعهم إسرائيل.
وهكذا، دخلت المنطقة في نفق مظلم، أفقه مسدود. انعدمت الخيارات، حتى العسكرية منها. المحاولات التسووية استنفدت في بقاع التوتر كلها، بلا جدوى. بات واضحاً للجميع مدى ترابط الأزمات. هي روافد لصراع واحد أحد، بين محورين. بين جبهتين. بين مشروعين. لا حلول بالتجزئة... وأيضاً لا حروب بالتجزئة.
عدوان تموز كان حالة فريدة، أثبتت فشلها. صحيح أن الإسرائيلي اكتفى، علناً، بالحديث عن إخفاقات تقنية، وفشل في القيادة والتحكم، وقصور في الخطط العسكرية،... وصحيح أن المقاومة اكتفت، علناً، بالحديث عن بسالة المقاتلين والرعاية «الإلهية». لكن الجميع يعرف أن هذه الحرب خيضت عملياً في جنوب لبنان، لكنها استندت فعلياً إلى مختلف حلقات السلسلة المعروفة بمحور الشر.
سلسلة أثبتت تماسكها. حلقة الوسط فيها لوجستية. ذراعها التنفيذية في المقدمة (حزب الله، ومعه الفك الآخر من الكماشة في غزة). وعمقها الاستراتيجي في إيران.
معادلة يبدو أنها لم تردع إسرائيل، التي أنهى جنرالاتها استعداداتهم، بعدما «استخلصوا عبَر الحرب»: غارة على سوريا، اغتيال عماد مغنية، وعاد الحديث عن الخيارات العسكرية، وعن حرب وشيكة.
حرب يسعى المخططون لها أن تكون محدودة الساحة: جولة جديدة مع حزب الله، تترافق مع اشتعال جبهة خلفية في الداخل اللبناني، مع إمكان أن تطال سوريا، الخاصرة الرخوة في السلسلة السالفة الذكر.
يرون أن الظرف الراهن هو الأنسب لاندلاعها: انقسام عربي هو الأخطر من نوعه، وضع سوريا في مواجهة السعودية ومصر (قد تكون المعادلة بالعكس) وانتخابات رئاسية أميركية تهدد بانتقال البيت الأبيض إلى رئيس ديموقراطي يُرجّح أن يحرف المسار، أو تسليمه إلى جون ماكاين، الذي يُفضّل عدم تحميله وزر إشعال حرب جديدة، بل الاكتفاء بإدارتها أو حصد نتائجها.
مؤشرات كثيرة أخرجت إيران من دائرة استهدافاتها: إقرار جنرالات أميركا بعجز عسكرهم عن خوض حرب كبرى جديدة. تقرير الاستخبارات الأميركية. الضغوط الديموقراطية لتسريع الانسحاب من العراق. حوافز أوروبية لطهران...
جاءت التأكيدات بالأمس مع تموضع «يو أس أس كول» قبالة لبنان. تموضع يعبّر عن ارتقاء درجة في نوعية الضغوط الممارسة على سوريا، ليس هناك بعدها إلا الحرب. انتشار عسكري يغطي المذبحة الدائرة في غزة، والتي يُرجّح توسّعها. كما يغطي مضي «الأكثرية» اللبنانية في تطبيق برنامجها المعلن، ومفتاحه الاستحقاق الرئاسي في 11 آذار.
أي ممانعة مرفوضة. وأي «تعطيل» سيواجه بالـ«عصا الغليظة». عصا يحملها جنرالات إسرائيل. شرارتها ستندلع من لبنان، وتحرق ما فيه: تحرّك مسلّح للمعارضة، أو رد حزب الله على اغتيال مغنية.
الأهداف واضحة: القضاء على «حماسستان» و«حزب الله لاند». كسر سوريا. وعزل إيران، التي يُرجّح ألا تبقى مكتوفة الأيدي.
صحيح أن القرارات الكبرى التي تتخذها واشنطن ليست من فعل الرئيس وحده. إنه كالقابلة القانونية التي تلد الطفل ولا تصنعه. لكنه يملك بلا شك هامش تحرك. يدفع بما يراه مناسباً ويعيق ما يرى فيه مخاطر. هذا إذا كان عاقلاً.
الأمل في أن يردع جنون نجاد، جنون قاطن البيت الأبيض.