طوني صغبيني
لم تخف الابتسامة العريضة لوزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، خلال زيارتها للشرق الأقصى، القلق الأميركي المتزايد من «الستاتيكو» المتحرك باتجاه معاكس لطموحات واشنطن في المنطقة، في وقت شهدت فيه علاقات بلادها مع كل من اليابان وشبه الجزيرة الكورية والصين فتوراً متزايداً.
تحت شعار العثور على تقدم مفقود في العملية السياسية المضنية مع كوريا الشمالية، الخارجة بتردد من نادي الدول النووية، كان واضحاً أن زيارة كوندوليزا رايس إلى الشرق الأقصى أتت لإصلاح خلل أبعد من التفصيل الكوري.
ففي اليابان، تحوّل التململ المزمن لدى الرأي العام من الوجود العسكري الأميركي، إلى غضب جارف بعد حادثة أوكيناوا (جريمة اغتصاب ارتكبها جندي أميركي)، دفع السلطات اليابانية والأميركية إلى فرض إجراءات غير مسبوقة على تحركات العسكريين هناك، والإعلان للمرة الأولى عن عديد القوات الأميركية في وطن الساموراي، وتحديد أماكنها. تململ حسّن موقع المعارضة الرافضة لمشاركة طوكيو في «الحروب الأميركية»، ما ينذر بتحوّل قريب في الحكم.
وعلى الجانب الصيني، اكتسب التوتّر بين بكين وواشنطن، طابعاً أمنياً ـــــ عسكرياً، بعد إعلان اعتقال أربعة جواسيس مزعومين للتنين الآسيوي على الأراضي الأميركية. بالإضافة إلى عملية إسقاط القمر الاصطناعي الأميركي «يو اس 193»، التي سببت غضباً عارماً في بكين، على اعتبار أنها «غطاء لتجربة عسكرية سرية» ردّاً على تجربة مماثلة للجيش الصيني قبل عامين.
في السودان، كان المبعوث الصيني يؤكد أن بكين تريد «القيام بدور إيجابي» في النزاع في إقليم دارفور، وهو ما يمكن اعتباره إعلان بداية الدور الصيني السياسي، بعد اقتصار العلاقة في السابق على الشأن الاقتصادي.
في المقابل، وفي اليوم نفسه أيضاً، كان وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس يزور الهند، حيث أشار خلال جولته إلى قرب اختتام صفقة كبرى للسلاح مع نيودلهي، بالإضافة إلى إعلانه إمكان إنشاء دفاع صاروخي مشترك بين البلدين. وهو إعلان زادته خطورة تصريحات لمصادر دبلوماسية أميركية قبيل الزيارة، أكدت أن «المبدأ» الأهم في العلاقة الدفاعية بين واشنطن ونيودلهي نابع من ضرورة «احتواء» الصين.
كلّ ذلك، وضع جانباً بعد زيارة رايس، حيث ظهرت النتائج بسرعة: اليابان أكدت عمق التحالف بين الدولتين وشددت موقفها حيال إيران. الصين أعلنت أن معالجة الخلاف الاقتصادي أولوية، فيما تأجل توقيع اتفاقية شمال فارس لأسباب لم تُعلن، وأعلن البلدان استئناف «حوار حقوق الإنسان» المجمّد منذ أربع سنوات، فضلاً عن تأكيد كل من طوكيو وسيول وبكين أهمية تشجيع بيونغ يانغ على المضي قدماً في تنفيذ الاتفاق السداسي.
ماذا فعلت رايس لتقلب الصورة؟ من الواضح أنها أتت بـ«رزمة» من المغريات، ولا سيما على الجانب الصيني. فهي أعادت تأكيد مبدأ «صين واحدة»، ما يعني رفض خطط تايوان بإجراء استفتاء في آذار حول الوضع السياسي للجزيرة، كما تجاهلت كلياً أي إشارة إلى ميانمار أو التيبيت أو أي موضوع شائك بالنسبة إلى بكين.
لكن «الإغراء» الأميركي الأهم للصين، كان في المجال العسكري، حيث ذكرت مصادر أن مدير التخطيط الاستراتيجي في منطقة الهادئ في الجيش الأميركي الجنرال توماس كونانت، زار بكين في الفترة نفسها، واتفق مع نظرائه الصينيين على إجراء مناورات مشتركة في المحيط الهادئ، هي الأولى من نوعها بين بحرية البلدين في هذه المنطقة من العالم.
رايس نجحت هذه المرة في إعادة تثبيت «الستاتيكو» الأميركي المهتزّ في شرق آسيا، لكن تطور الأحداث يشير إلى أن مهمتها في المرات المقبلة ستكون أكثر صعوبة: فإذا كانت واشنطن قد اقتنعت أخيراً بأن أي وضع مستقر في شرق آسيا مستحيل من دون «شراكة صينية كاملة» تتجاوز البعد الاقتصادي، فالتنازلات القليلة التي قدمتها اليوم لإنقاذ «الستاتيكو» لن تكون كافية في المستقبل القريب، ولا سيما على وقع النمو الصيني «اللانهائي». وقد تستيقظ الإدارة الأميركية في يوم ما، في ظلّ خريطة جديدة للقوى، تنقلب فيها الأدوار، فتصبح هي «الشريك الضامن»، وبكين «المحور ـــــ المحرّك» للعلاقات الآسيوية.