باريس ــ بسّام الطيارة
بات من غير الممكن نفي واقع العنف الذي يلوِّن زوايا العالم وتنقله الوسائل الإعلامية المختلفة. العنف في كل مكان، وعلى كل الصعد، وهي ظاهرة تشغل بال المسؤولين الفرنسيين وجميع المهتمين بأحوال المجتمع وشؤون التربية المدنية وتأثيرها على المستقبل والحياة الاجتماعية بشكل عموماً.
ويختلف المعنيون على أصول موجات العنف، إذ يشير البعض إلى مسؤولية السينما والتلفزيون، وبالتالي يرون في هوليوود «الشيطان الأكبر» الذي يقف وراء امتداد العنف والترويج له لكونه «موضة» تخرج من الشاشات وتدخل في الحياة اليومية وفي ألعاب الأطفال وكتب الكبار والصغار. بينما يرى البعض الأخر تفسيراً اقتصادياً للعنف في أجواء العولمة التي فرضت نمطاً جديداً للحداثة يرى عدد كبير من سكان القرية المعولمة أنهم باتوا غير قادرين على تأقلم معه واللحاق بركابه.
لا يطل يوم إلا تصدُر الصحافة الفرنسية بخبر عن العنف. إلا أنه بخلاف ما كان سائداً في الماضي، لم تعد «أخبار العنف» تقتصر على صفحات القضايا الأخلاقية وأخبار المحاكم وتقارير الشرطة، بل يمكن أن نجدها في أي قسم من أقسام الوسيلة الإعلامية. ولعل هذا ما يفسر تناقض الدراسات التي تشير من جهة إلى تراجع العنف «بحسب التعريف القضائي له». إذ تشير وزارة الداخلية إلى أنه، للمرة الأولى منذ ١٩٩٥، تراجعت الجنح بنسبة 3.75 في المئة العام الماضي، بينما تشير الدراسات الاجتماعية إلى تقدم «العنف بشكل عام».
وعلى سبيل المثال، أظهرت آخر دراسة لمؤسسة الإحصاء الوطنية أن 3.3 في المئة من النساء يتعرضن للعنف المنزلي، وأن فقط 11.1 في المئة يقدمن شكوى أو يرفعن دعوى لتدخل في إحصائيات الشرطة، فيما تفضل الأخريات التحدث مع قريب (41.6 في المئة) أو لجمعية أهلية (19.4 في المئة).
وتضج الوسائل الإعلامية كل مطلع أسبوع بأخبار «العنف الرياضي» الذي يعمّ الملاعب في نهاية الأسبوع، وخصوصاً خلال مباريات كرة القدم، ويتجسد بسباب عنصري موجه للاعبين من أصول أفريقية أو عربية. وأجرى اتحاد كرة القدم إحصائيات للعنف «غير المباشر» أدهشت المراقبين، إذ أشارت إلى «ملاحظة» ٢٤٧٢ شتيمة من الوزن الثقيل إلى جانب ٢١٣٩ «ضربة كف واشتباك في الأيدي» في مباريات الدرجة الثانية. ومن المعروف أن إحصاءات الدرجة الأولى «الفاخرة» تظل سرية لتجنب التأثيرات السلبية على المعلنين، ولعدم فقدام «حظوة الميزانيات الإعلانية الضخمة».
ورأت مجلة «ماريان» المعارضة القوية لتوجهات نيكولا ساركوزي، في عدد لها قبل شهرين عن عنف الضواحي، أن للعنف أيضاً أسباباً اقتصادية يومية نابعة من الكبت الاقتصادي الذي يتحول إلى حرمان استهلاكي. وأشارت يومها إلى دور الإعلام الذي يبرز «تحدي أصحاب المال وأرباب العمل الأثرياء» لشرائح واسعة من المواطنين الذين تتراجع قوتهم الشرائية ويغوصون في الفقر، بينما تسرد الوسائل الإعلامية بذخاً وحياة ترف يعوم عليها الوسط السياسي، وخصوصاً بعد البذخ الذي طبع احتفالات الرئيس الفرنسي مع «أصدقائه من رجال المال» عقب انتخابه، والزهو الذي لون به سفراته وتنقلاته في الخارج.
بعد أسبوعين، يمر أمام محكمة الجزاء أستاذ «صفع تلميذاً في الصف» بسبب وصف الأخير له بـ «الحقير»، وهي حادثة تشغل المجتمع الفرنسي من أهالٍ وهيئات تعليمية بسبب أجواء العنف عموماً. وقد أخذت طابعاً متميزاً، إذ إن الكلمة التي استعملها التلميذ مشتقة من الكلمة التي استعملها ساركوزي الرئيس الفرنسي خلال المشادة التي حصلت في المعرض الزراعي قبل عشرة أيام.
وقد انقسم المجتمع الفرنسي بين مؤيد لاتخاذ العقوبات بحق الأستاذ، ومنحاز إلى الاستاذ الذي «أعاد التلميذ إلى موقعه وأصلح قلة أدبه»، انقساماً تفاعل وانسكب على ما قام به ساركوزي، بين من يؤيد «ضرورة تأنيب الرئيس» واعتبار ما قاله قلة أدب تجاه مواطن، ومن يرى أن سيد الإليزيه بتصرفه يعكس صورة هذا المجتمع العنيف بألفاظه وأحكامه وقسوته الاقتصادية.