حسن شقراني
«تمكّنا من إزاحة جبل المشاكل المزمنة من نقطة ميّتة»... «علينا زيادة الجهود لكي يشعر كلّ الشعب بإيجابيّة في حياته اليوميّة»... «الإنسان هو الأولويّة الأساسيّة، وسنسعى لادخار هذا المورد وتطويره». ليست تلك العبارات مستقاةً من كتاب يعلّم فنّ مخاطبة الجماهير ومقاربة هواجسها. هي جمل نطق بها فلاديمير بوتين قبل يومين من تسليمه البيعة للسيّد الجديد للكرملين، المبارك، ديميتري ميدفيديف: الانتخابات الرئاسيّة الروسيّة غداً والتعبئة عند مستوياتها العليا.
اضطرار بوتين إلى التنحّي ومقاومة إغراء تعديل دستوري يتيح له الترشّح لولاية ثالثة، منطقيّ في إطار ديموقراطيّة موجّهة: نخبة حاكمة تبذل المستحيل للمحافظة على نهجها وإبقاء إرثها قائماً، وفي الوقت نفسه تتّبع عرفاً ديموقراطياً على الطريقة الروسيّة مفاده احترام المعايير السطحيّة (لآليّة الحكم ومفاعيلها) لتجنّب «أصوات حقوقيّة جانبيّة!».
وهنا يظهر ميدفيديف. أعجوبة جديدة ولّدها نظام متماسك. قد تكون ولايته فترة مرحليّة تفصل بين عام 2008 وعودة بوتين إلى الكرملين (وهو المرجّح والقانوني عام 2012). وقد تكون بداية لمشوار قد يطول، لسياسي شاب (42 عاماً) استقى مبادئ القيادة من نخبة النخب الروسيّة: العملاء السابقون في جهاز الاستخبارات الـ«كاي جي بي».
لم يعد مخفياً أو قابلاً للمحاججة مدى نجاح اختيار بوتين لـ«الخليفة»، وخصوصاً أنّ البلاد، التي تخطّت المستنقع الاقتصادي الذي فرضته سنوات التسعينيّات المرّة، أعادت اعتبارها على الصعيد الدولي، وتسعى الآن إلى احتواء أصوات الداخل والخارج المنادية بإسقاط هجين لِقيم حقوقيّة، لم يكتسب الروس بعد، بحكم تجربتهم الاقتصاديّة ـــــ الاجتماعيّة، المستقبِلات الفكريّة لهضمها.
وبشكل عام، الشعب الروسي راضٍ عن أداء السلطة وعمّا تحضّره. الحياة المعيشيّة تتحسّن، والاستقرار قائم والأفق مفتوح نحو تنمية تجسّدها كلمات بوتين المذكورة آنفاً. ولكن ما هي الحدود؟ هل الحكم في روسيا مثالي إلى هذه الدرجة (إذا استثنينا عمليّات تصفية معارضين بينهم 14 صحافياً وعزل ممنهج لـ«سياسيّين ليبراليّين طموحين»!)؟
ميدفيدف أفصح عن العنوان الرئيسيّ لرسالته: الحريّة لا تفترق عن الاعتراف القائم من الشعب بسلطة القانون... خلال السنوات الأربع المقبلة، يجب علينا أن نثبّت استقلال نظامنا القانوني عن الذراعين التنفيذيّة والتشريعيّة للسلطة.
السلطة تضغط على القانون في روسيا: فساد إداري ومحسوبيّات وبناء لثروات رجالات النظام. والمعادلة التي يفترضها ميدفيدف رافعةً انتخابيّة (في ظلّ طروحات مثاليّة مبتذلة ورضىً أكثر من 70 في المئة من الشعب عنه) تصبو للعكس. ما هي حدود هذا الطموح؟
في 21 من الشهر الماضي، ارتُكب الانتحار الأكبر في تاريخ السلك العسكري الروسي: رئيس مكتب الخدمات المنزليّة للعسكريّين في وزارة الدفاع الروسيّة، الجنرال فيكتور فلاسلوف، أطلق رصاصة على رأسه في مكتبه، عشيّة الاحتفال بـ«يوم المدافع عن الأرض الأم»، وغداة حوار ناري مع وزير الدفاع، أناتولي سيرديوكوف، خلفيّته (على ما يبدو) اجتماع للقيادات العليا، عُقِد في تشرين الثاني الماضي وأنّب فيه بوتين، سيرديوكوف نفسه، لافتقار أكثر من 130 ألف عائلة عسكريّين لمنازل.
فلاسلوف عالج «تقصيره» بالأداة المناسبة. والتحقيقات جارية لاستشفاف إذا ما كان «الانتحار جبرياً»... وميدفيديف يعد بارتقاء القانون فوق السلطة، لكن ما يتجاهله هو أنّ السلطة، التي رشّحته، هي القانون: من أجل مصلحة روسيا وحيويّة تطوّرها، كلّ شيء مباح حتّى بحقّ أعمدة النظام.