حسن شقراني
ردّة فعل الغرب على الطريقة التي تعامل بها الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، مع معارضيه في تشرين الثاني الماضي، كانت منطقيّة في إطار مبدأ «دعم الديموقراطيّات الناشئة». البلاد تشهد اليوم انتخابات رئاسيّة. استحقاق صعب بسبب وطأة التجاذب الشرقي ــ الغربي، حتى أن المعارضة لوّحت بالطعن في نتائج

المتظاهرون الجورجيون في تشرين الثاني،الذين جمعهم إطار «الجبهة المتّحدة»، طالبوا حينها بإقامة الانتخابات التشريعيّة في موعدها الطبيعي (ربيع العام الجاري). نزلوا إلى الشوارع في احتفاليّة ديموقراطيّة شبيهة إلى حدّ كبير بثورة الورود. تلك الثورة التي أوصلت ميخائيل ساكاشفيلي إلى الحكم الذي لم يعد يستطيع احتواء «الروسي» إدوارد تشيفارنادزيه. أرادوا الاحتجاج على تسلّط الرئيس وفرضه تأجيل اختيار المشرّعين إلى الخريف المقبل، لكي يتزامن مع الاستحقاق الرئاسي.
لقاءات التسوية مع الأميركيّين والأوروبيّين حينها دفعت نحو إيجاد حلّ وسط يضمن الشرطين الآتيين: 1ـ العودة سريعاً عن إجراء التعاطي بقوّة مع مفترشي الساحات 2 ـ ضمان اتّخاذ إجراءات عمليّة ديموقراطيّة تكبح جماح الشارع الملتهب، الذي شكّل كثير من زخمه موالين لروسيا.
رضخ ساكاشفيلي، بعد إعلان حالة الطوارئ لنحو أسبوعين، وأقرّ إجراء انتخابات رئاسيّة تشهدها البلاد اليوم، نتيجتها ستحدّد ما يريده 4.7 ملايين نسمة، لم يهنأوا بـ«الديموقراطيّة والعيش الرغيد» اللذين وعدهما بهما ساكاشفيلي في خطاباته الرنّانة عندما تولّى زمام الأمور عام 2003، بل لاقوا انكماشاً اقتصادياً (سببه إدارة سيّئة للقطاع العام من جهة، وإجراءات روسيّة عقابيّة على العداء الذي تكنّه السلطة في خاصرتها الغربيّة الجنوبيّة)، وتعاط دكتاتوري مع الشرارة السياسيّة الأولى التي تطلّبت توليفةً سلطويّة.
من خلال التاريخ السياسي والجغرافيا الاقتصاديّة والاستراتيجيّة، يمكن الإشارة إلى نقطتين تشرحان ما تكتنفه انتخابات اليوم من أهميّة، وإن توقّع من سيفوز فيها أمر شديد الصعوبة، حسبما يجمع معظم المحلّلين.
1 ـ التوجّه السياسي للبلاد، القائم حالياً، سيبقى هو نفسه، إذ إنّ جميع المرشّحين الرائدين في الاستطلاعات يؤيّدون انخراط بلادهم في حلف شمالي الأطلسي، الذي ترى روسيا في تمدّده إلى حدودها الغربيّة تهديداً طابعه أميركي بحت، تؤكّده نيات الولايات المتّحدة نشر منظومة صواريخ «دفاعيّة» في بولندا وتشيكيا.
زعيم «الحزب الجمهوري» المعارض، دايفيد أوسوباشفيلي، لا يترك مناسبة إلّا يخصّصها لدحض «سلوك ساكاشفيلي الدكتاتوري على مدى 4 سنوات»، وهو ما يبدو مؤشّراً إلى أنّ أكثر من استفاد من تجربة مرحلة ما بعد «ثورة الورود»، هو الجسم السياسي، بكل أطيافه، والذي بدأ يعي، حسبما يتّضح، أنّ معالجة أزمات الحكم في بلاد اجتاحها الجيش الأحمر عام 1921 (بعد 4 سنوات على نيلها استقلالها!) واستقلّت مع انهيار الاتحاد السوفياتي لتبقى تحت سيطرة أحد أبرز علّامته (تشيفارنادزيه) لتعود وتشهد ثورة تحوّلت سريعاً إلى وهم ديموقراطي، لا يمكن أن تتمّ إلّا عبر التوفيق بين الشرق والغرب.
2 ـ الأهميّة الاستراتيجيّة التي تحكم التغيير في جورجيا تكمن في أنّ البلاد الآن حليفة لأميركا بامتياز، وفي الوقت نفسه تملك حدوداً طويلة مع روسيا (80 كيلومتراً) منها مع الشيشان.
والمنطقتان الجورجيّتان الانفصاليّتان، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة، وهما في صميم الصراع، تشكلان نفوذاً لروسيا، وإن تشير التوقّعات إلى أنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وخلال ولاية حليفه ديميتري ميدفيديف (منذ آذار من العام الجاري وحتّى عام 2012)، سيسعى إلى إيجاد حلّ لهما قبل الألعاب الأولمبيّة الشتويّة التي تستضيفها سوتشي الروسيّة عام 2014. وهو عام يتوقّع أن يكون قد استعاد بوتين قبله بسنتين السيطرة كاملة على الكرملين.
والأرجح أن يبقى تلويح موسكو بالعصا، قائماً إذا حاول الرئيس الجورجي الجديد التعاطي مع الجار الشرقي بالطريقة نفسها التي أرستها ثورة الورود: بدأت بمطالب استقلاليّة سياسياً لتصبح عداءً جافاً (احتمال أن يبقى ساكاشفيلي نفسه رغم عدم أرجحيّة فوزه بنسبة تفوق الـ50 في المئة من الأصوات كي يتخطّى عقبة الدورة الثانية... وكلّ ذلك مع التشديد على أنّ الجورجيّين سيبقون غير حاسمين خياراتهم حتى اللحظة الأخيرة).
استنتاج أنّ جورجيا لا تنتج زعماء إلّا بصبغة دكتاتوريّة (الزعيم السوفياتي السابق جوزف ستالين كان جورجياً، تشيفارنادزيه، وساكاشفيلي) صحيح حتى الآن بحسب التاريخ الممتدّ منذ الانفصال عن الأمبراطوريّتين الفارسيّة والعثمانية والالتصاق بروسيا عام 1801. لكن ربّما الاعتياد على الديموقراطيّة يحتاج إلى أكثر من 16 عاماً... لنرى من سيفوز وما ستقوله موسكو.