أرنست خوري
صحيح أنّ الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية لم تنطلق إلا يوم الخميس الماضي في ولاية أيوا. إلا أنّ التحضيرات لها تكاد تكون بلغت اليوم عامها الأوّل. تحضيرات جاءت مبكرة لسبب رئيسي: التدهور الكارثي الذي عرفه احتلال العراق منذ مطلع عام 2006. ولأنّ «مصائب قوم عند قوم فوائد»، رأى المسترئسون الديموقراطيون في الفشل الذريع لمشروع جورج بوش وفريق عمله في بلاد الرافدين، فرصة ذهبية لوضع بند «سحب فوري لقواتنا»، في مقدّمة برامجهم الانتخابية.
بند شعبي لا ينمّ بأي حال من الأحوال عن «يقظة» الناخب الأميركي تجاه مساوئ امبريالية مشروع قيادة بلاده، بل هو يحاكي رأياً عاماً عارماً داخل الولايات المتحدة، يرى أنّه تعرّض للكذب عندما قال له بوش وديك تشيني إنّ أمن آخر قرية نائية في ولايات الوسط والشمال الاميركيّين، يتوقّف على قلب الطاولة في بغداد، واحتلال تلك البلاد...
هكذا تلقّف الديموقراطيّون اللحظة التاريخيّة؛ فهيلاري كلينتون، فعلت المستحيل، ولا تزال، لتكفّر عن ذنبها في التصويت على قانون رقم 107/243 (تاريخ 16 تشرين الأوّل 2002) الذي فوّض إلى القوّات المسلّحة الأميركيّة شنّ الحرب على العراق. أمّا المرشّح الديموقراطي الآخر، صاحب الحظوة في انتخابات أيوا، باراك اوباما، فكان أكثر تصالحاً مع الذات، لكون الرجل لم يكمل بعد ولايته الأولى حاكماً لولاية ايلينوي، ولم يكن سيناتوراً عام 2002.
غاية الكلام، أن المرشّحين الديموقراطيين، «حلبوا» التعثّر الاميركي في العراق، وفعلوا المستحيل لكسب المزيد من الشعبية على حساب الدم العراقي والاميركي المراق في هذا البلد المحتل داخل قاعات مجلس الكونغرس، وفي الشارع وفي الإعلام. والنتيجة كانت مرضية: فحتى شهر آب الماضي، كانت بورصة استطلاعات الرأي تعطيهم تقدّماً كبيراً على نظرائهم الجمهوريين الذين ظلّوا متماسكين (رغم الانشقاقات غير الكبيرة) خلف جورج بوش.
لكن منذ شهر آب حتى اليوم، طرأ ما كان من شأنه تعكير صفو التألّق الديموقراطي: بدأت مفاعيل خطة بوش في العراق تظهر، على الأقل أمنياً. بالتالي، بدأت أعداد التوابيت العائدة من وراء البحار إلى الوطن تنخفض... وفي نتيجة منطقية، عاد موضوع العراق ليحتلّ مواقع متأخرة في اهتمامات الاميركيّين، حتى إنّ أيّاماً عديدة مرت في الأشهر الستّة الاخيرة، من دون أن يحتلّ الوضع هناك الصفحات الاولى في الصحف الاميركية، ولا الخبر الاول على شاشاتهم... وكان طبيعياً أن يغيب العراق عن خطابات ومهرجانات اوباما وكلينتون. هنا تمكن الإشارة الى ملاحظة مركزية في فهم اسباب هذا الغياب: فالتاريخ والانثروبولوجيا وعلم الاجتماع، كلها تؤكّد أنّه بالنسبة للناخب الاميركي (طبعاً لا تعميم في هذا الحكم النسبي)، لا قيمة للسياسة الخارجية، الا بقدر ما تتحوّل هذه السياسة الى موضوع اميركي محلّي؛ فاستطلاعات الرأي والدراسات، الاكاديمية والصحافية، كلها تجمع على أن الشعب الاميركي من اقل شعوب العالم اكتراثاً بالتطورات الدولية حتى تلك التي تكون من صنيعة واشنطن.
ومع النجاح التكتيكي، والخسارة الاستراتيجية للمشروع الاميركي في العراق، أدرك الديموقراطيون أنه لا بد لهم من مهادنة الموضوع العراقي، مع ابقاء يقظتهم في حالة استنفار قصوى؛ فهم يعرفون تمام المعرفة، أن الاستقرار الأمني النسبي والهش في العراق، يقابله فشل كامل في السياسة.
لذلك، ضمّن جميع المرشحين الديموقراطيّين كرّاسات برامجهم الانتخابية، بند سحب الجنود من أرض المعركة الخاسرة من دون إثارة هذا الموضوع كثيراً في خطاباتهم وفي مهرجاناتهم الانتخابية، لأن العراق اليوم لم يعد ذلك الموضوع الجذاب الذي «يشدّ» الأصوات.