بغداد ـ زيد الزبيدي
مرّت الذكرى الـ87 لتأسيس الجيش العراقي قبل أيام مرور الكرام في بلاد الرافدين، حيث أدى هذا الجيش منذ مطلع القرن الماضي، أدواراً سياسية بامتياز، أكان من ناحية الانقلاب على الأنظمة، أو حمايتها، أو حتّى تسلّم الحكم مباشرة. أمّا في عراق ما بعد الاحتلال، فرغم أنّ عديد الجيش الجديد بات يناهز الـ400 ألف عنصر، فإنّ دوره تمّ تحجيمه إلى دور الشرطة المحليّة، أو فرقة كشّاف لدى جيوش الاحتلال، حيث يتمّ إرساله في مقدّمة الفرق العسكرية إلى المناطق الأخطر، لتمهيد الطريق أمام اقتحام الجيش الأميركي. لكن، هل لهذه المؤسّسة الدفاعية أي دور سياسي، بعدما بات التوجّس من دور مماثل مصدر رعب لدى الطبقة السياسية الحاكمة اليوم في بغداد، كما بالنسبة إلى الاحتلال الذي يغطّيها؟
لطالما شاع عن طبيعة هذا الجيش بأنه «جيش قتلة وانقلابيّين»، بينما يصرّ آخرون على أنه كان دائماً جيشاً متمرساً خلف عقيدة قتاليّة. ويرى معظم المراقبين السياسيّين والعسكريّين أنّ الجيش العراقي، كان ولا يزال، انعكاساً لمجتمعه، وأنّه مشبع بالروح الوطنية، على الرغم من استغلاله أحياناً في أمور سياسية تخرج عن حيّز اختصاصه.
وكأيّ جزء حسّاس من الشعب، لم يشارك الجيش في العهد الملكي في أي قتال داخلي، وحتى عندما أُعلنت الأحكام العرفية بعد انتفاضة 1952، كان الحكّام العسكريّون متعاطفين مع الشعب.
إلا أنّ هناك ما يُذكَر للجيش أنه انحاز في الحرب العالمية الثانية ضدّ البريطانيّين كمحتلّين، وكذلك قيامه بثورة 14 تموز 1958، التي حدثت باتفاق مع القوى السياسية، المؤتلفة في الجبهة الوطنية آنذاك.
وبعد انقلاب 8 شباط على حركة عبد الكريم قاسم، الذي رتّبته الاستخبارات الأميركية، والذي ابتدأ باغتيال واعتقال الكثير من الضباط، بادر رئيس العرفاء حسن سريع بقيادة حركته المعروفة في 3 تموز 1963، وكانت حركة عسكرية ـــــ مدنية، تمكن في خلالها من اعتقال العديد من الوزراء.
وباستثناء ثورة 14 تموز، وحركة حسن سريع، جاءت الانقلابات اللاحقة في تشرين الأول 1963، وتموز 1978، إضافة إلى انقلاب 8 شباط، مرسومة ومعدّة من الخارج، وأملتها ظروف موضوعية اقتضت تبديل الوجوه الحاكمة لمصلحة خارجية، وكان الجيش فيها شبه معطّل. ولعلّ المثال الأوضح على ذلك فشل محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية في 1965، لأنّها لم تكن مدعومة خارجياً. وكان عبد الرزاق آنذاك رئيساً للجمهورية بالوكالة (لسفر عبد السلام عارف إلى القاهرة)، إضافة إلى كونه وزيراً للدفاع وقائداً للقوة الجوية.
وبعد انقلاب 17 تموز 1968 المدعوم خارجياً خلال نظام عبد الرحمن عارف، وتولي حزب البعث (جناح البكر ـــــ صدام حسين) السلطة، تمّ تسييس الجيش، بمنع أي حزب من العمل في صفوفه عدا الحزب الحاكم، حتى في أيّام جبهة البعث مع الشيوعيّين والأكراد، أوائل السبعينات، حيث أُعدم كل من ثبت ارتباطه بحزب غير البعث، ومنهم المئات من العسكريين، الشيوعيّين بشكل خاص.
ومع ذلك، ظلّ الجيش ممثّلاً لشرائح المجتمع. وليس غريباً أنّ معظم المحاولات الانقلابية ضدّ نظام صدّام حسين قام بها قادة عسكريّون ينتمون اختيارياً أو إجبارياً إلى حزب البعث، وأنّ معظم هذه المحاولات تمّ الكشف عنها وإحباطها من استخبارات أجنبية، ومنها محاولات راجي التكريتي ومجموعته، وكامل الساجت، وبارق الحاج حنطة، وغيرها. وكانت آخر تلك المحاولات قبل الغزو الأميركي بشهور، عندما طلبت مجموعة من الضبّاط توسّط جلال الطالباني لدى الأميركيّين بعدم التصدّي لهم عند تحرّكهم، وكان الردّ الأميركي حاسماً بأنّه سيضرب أيّة قوة عسكرية تقترب من بغداد. وفي السياق، كشف الطالباني أخيراً عن أنّ وزير الدفاع السابق، المحكوم بالإعدام حالياً، سلطان هاشم أحمد، هو صاحب هذه المحاولة التي كانت تهدف بالأساس إلى تجنيب العراق ويلات الغزو والاحتلال.
ومع معرفة الاحتلال المسبقة أنّ الجيش لن يرضى بالاحتلال، فقد تمّ حلّه في أوّل قرارات رئيس سلطة الاحتلال بول بريمر، ليأتي دور الميليشيات في اغتيال مئات الضبّاط، وخاصة الطيّارين ذوي الخبرة، ممّن شاركوا في الحرب العراقية ـــــ الإيرانية.
وكانت خطّة حلّ الجيش مدروسة مسبقاً، لأن الاحتلال أراد تأسيس وتسليح جيش جديد، ما زال ولاؤه غير معروف لاعتماده على أسس طائفية تتضمّن دمج الميليشيات به، إضافة إلى من ينجح في اختبار الولاء للاحتلال.
لكن من حين لآخر، تحصل حوادث تثبت أنّ جيش العراق يبقى مليئاً بالعناصر التي مهما تمّ تلويث سمعتها وتاريخها، يبقى رمزاً للروح الوطنية. وما حادثة الجندي قيصر آل السعدي، الذي قتل 3 جنود أميركيين منذ فترة في الموصل بعد اعتدائهم على امرأة حامل بالضرب والركل، سوى دليل على أنّ العراق لم يخلُ بعد من العناصر الوطنية التي ترفض الاحتلال الأجنبي والديكتاتوريات المحلية في آن معاً.