واشنطن ــ محمد سعيد
تخشى أوساط سياسيّة وخبراء اجتماعيّون أميركيّون أن يسفر الصراع على الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركيّة إلى نبش الماضي العنصري العرقي في البلاد وإذكاء نيران العنصرية التي سعت «المؤسّسة» الحاكمة، منذ صدور قوانين الحقوق المدنية عام 1964، في عهد الرئيس الراحل ليندون جونسون، إلى دفن «سياسة التمييز العنصري» التي كانت تمنع السود من المشاركة في الانتخابات، رغم أنّ ذلك لم يمنع إثارة «العنصرية» بين الحين والآخر.
فقد أثار الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في سياق دعمه للحملة الانتخابيّة لزوجته، هيلاري، عشيّة الانتخابات التمهيدية لولاية نيوهامشير الأسبوع الماضي، موضوع «صعوبة انتخاب رئيس أسود»، في إشارة إلى الديموقراطي، المنافس الأوّل لهيلاري، باراك أوباما، الذي يواجه فتوراً غريباً من الزعماء السود المرتبطين بـ«المؤسسة» الأميركية الحاكمة، والتي يرى البعض قصّته «ضرباً من الخيال»، على حدّ تعبير الرئيس كلينتون.

انتهازية آل كلينتون السياسية

وجد آل كلينتون، على ما يبدو، أنّ إثارة قضية العنصرية ليست في مصلحة حملة هيلاري، على الأقلّ في المرحلة الحالية التي يشكل النجاح فيها طاقة الدفع للاستمرار في باقي المحطات الصعبة التالية. فأسرع بيل إلى تصحيح تعبيراته في لقاءات مع وسائل الإعلام ليدّعي بأن ما قصده هو أنّ معارضة أوباما لغزو العراق، ليست سوى «حكاية خيالية». كما حاولت الزوجة السيطرة على توابع هذا التعليق، الذي أثار غضب العديد من قادة السود في البلاد، وذهبت إلى حدّ اتهام السياسي الأسود بإثارة نعرة العنصرية.
هيلاري لمّحت إلى أنّ «حلم السود»، الذي عبّر عنه زعيم حركة الحقوق المدنية قبل اغتياله في منتصف الستينات من القرن الماضي، مارتن لوثر كينغ، لم يتحقق إلّا برئيس أبيض، هو ليندون جونسون. وقالت، في برنامج «واجه الصحافة» الذي بثته شبكة التلفزيون «أن بي سي»، إنّ حملة أوباما أضفت مسحة من العنصريّة على السباق الانتخابي وإن تصريحاتها بشأن كينغ شُوّهت عن عمد من أنصار أوباما.
ويخشى آل كلينتون أن يكون قد أصبح في حكم المسلّمات أن يمنح السود أصواتهم لأوباما، الذي يحظى بزخم سياسي وانتخابي، إلى جانب ميل العديد من البيض له مثلما حدث في كلّ من آيوا ونيوهامشير، اللتين لا تتجاوز نسبة الناخبين السود فيهما 2 في المئة. وربما يلجأ آل كلينتون إلى العزف بحذر على وتر العنصرية بدرجة ما، حتى يستثيروا فيروس العنصرية الخامل داخل العديد من البيض الذين يمثلون غالبيّة الناخبين في الولايات المتحدة، وذلك كملجأ أخير لإنهاء «ظاهرة أوباما».
وفي سياق محاولتها التخفيف من وقع تصريحاتها وزوجها وغمزاتهما «العنصرية»، عمدت هيلاري إلى مغازلة السود، واصفة هذه اللحظات التي تشهد خوض أوّل أسود وأوّل امرأة سباق الترشح لانتخابات الرئاسة بأنها «تاريخية». كما وصفت الزعيم الراحل كينغ، بأنّه من أكثر الشخصيات التي حازت إعجابها في العالم، إلّا أنّها استدركت بالقول إنّ سجلّه يقف على النقيض من سجلّ أوباما. وأوضحت أنّه لم يلق الخطب فقط، بل كان يقود المسيرات ويتعرض لقنابل الغاز والضرب والسجن، بل إنه كان يروّج للرئيس جونسون بعدما أدرك الحاجة لانتخاب رئيس يستطيع أن يحوّل الحقوق المدنية إلى قانون.
وبشكل عام، تتعمّد السيّدة الأولى سابقاً التسخيف من القدرات العمليّة لمنافسها، مقارنة مع مواهبه الخطابية. وتشير إلى أنّه رغم معارضته القوية والبليغة لغزو العراق عام 2002 (قبل دخوله مجلس الشيوخ) فإنّه لم يصوّت ضد التمويل المتوالي للحرب في العراق بعدما أصبح عضواً في المجلس. وتؤكّد أنّ الخطاب في التاريخ السياسي الأميركي شيء أساسي في بلورة قضية ما والإيحاء إلى الناس، مشدّدةً على دفاعها عن تصويتها عام 2002 لتخويل إدارة الرئيس جورج بوش بشن حرب على العراق، لأنّ «الحكمة ليست في موقف واحد، بل في جملة المواقف التي يتخذها المرء على مدى تاريخه».

نخبة سوداء انتهازيّة

قد تدفع لعبة السياسة في الولايات المتحدة بأصحابها، الذين يسعى بعضهم إلى الفوز بأي طريقة، إلى تجاوز ما يُعدّ من «المحرّمات». غير أنّ ما يزيد من ألم أوباما هو محاولة القياديّين التقليديّين السود الأميركيين الاصطفاف إلى جانب «المؤسّسة البيضاء» تحت شتى الذرائع بما فيها «الشخصيّة»، حيث ينظر بعضهم إلى أنّ أوباما «الجديد» في السياسة قد تجاوزهم ويحقّق ما عجزوا هم عن تحقيقه. وقد أكّد مثل هذا التفسير أحد أبرز زعماء السود، وهو أندرو يونغ، الذي كان أوّل مندوب أميركي أسود دائم لدى الأمم المتحدة في عهد الرئيس السابق جيمي كارتر، عندما قال إنّ بيل كلينتون كان رئيساً لا يقلّ انحيازاً وحماية للسود عن أوباما.
وفيما حذّر القسّ الأسود آل شاربتون، أوباما من أن يأخذ صوت السود كأمر مسلّم به. بل وادّعى أنّ تنبّه المتنافسين لقضايا الحقوق المدنية أخيراً كان بفضل الضغوط التي يمارسها هو، يدرك القس الأسود جيسي جاكسون أنّ ما يمر به أوباما ليس بالأمر الجديد، إذ سبق لأرملة مارتن لوثر كينغ، أن فضلت تأييد المرشّح الأبيض وولتر موندال، عندما كان جاكسون يخوض السباق للترشح للرئاسة عام 1984. إلّا أنّه يحاول أن يبحث عن أيّ سقطات لأوباما ليثبط بها عزمه ويبدّد التفاؤل الذي يحيط بحملته.
إلّا أنّه من المعروف عن هؤلاء الزعماء أنّهم يمتهنون النشاط المدني كنوع من الوظائف التي تدرّ عليهم أرباحاً. وربما لا يجيد أوباما التعامل مع مثل هذه الفئة، والدليل على ذلك رفضه الحصول على أيّ أموال من أي جماعات ضغط أو «لوبي» مصالح والاقتصار في تمويل حملته على مساهمات الأفراد مهما كانت صغيرة حتى ضرب المتبرّعون لحملته رقماً قياسياً لم يسبق لمرشّح أن حقّقه.
ويدرك أوباما أن «النخبة السوداء» لن تضيف إليه الكثير وإلّا لاستطاعت أن تحقّق لنفسها ما نجح هو في تحقيقه حتى الآن. كما أنه يخاطب البيض برسالة التوحيد والفكر والمثل وإعلاء الرغبة في التغيير مثلما يخاطب في السود الثقة في النفس والإيمان بأن نجاحه هو نجاح لقضيتهم. ومن المتوقع أن تحمل نتائج ساوث كارولاينا يوم 26 من الشهر الجاري وقبلها بسبعة أيّام انتخابات نيفادا التمهيدية، التي يمثل فيها الصوت الأسود نسبة كبيرة من الناخبين، الدليل على أن الرسالة التي يحملها أوباما الأسود قد وصلت وأنه قد حطّم قيوده وكسر دائرة التصدي لقضية شريحة واحدة من المجتمع لينتقل إلى نطاق أرحب من الخطاب.