الرياض ــ الأخبار
لم يعتد السعوديون شتاءً قارساً كما هي الحال في هذه الفترة من السنة. هذا التبدّل المناخي طغى على أحاديث الناس وتحركاتهم، إضافة إلى تبدّل آخر في «رقابة الممنوعات»، التي يعيشون في كنفها، رغم حال التراجع في صرامة تطبيقها

الناس لا يملّون الشراء. لهذا، لا يبدو مستغرباً تحوّل المملكة إلى شبه مستودع للأسواق التجارية أو «المولات»، التي زاد عددها بشكل كبير لتغطي المساحات الصحراوية الشاسعة. ويمكن اعتبار هذه الأماكن متنفساً للعائلة أو الأصدقاء من الجنس الواحد، إذا أرادوا الخروج من المنزل، فخياراتهم محدودة وتنحصر في المطاعم أو المقاهي أو الأسواق.
حتى الأزياء تبدو شبه محدّدة في لونين اثنين، الأبيض والأسود، ليتماهى هذان اللونان مع مربعات لوحة الشطرنج، فتطغى على المشهد العام في المملكة. غالباً ما يرتدي الرجال العباءة البيضاء، وهي الزي السعودي التقليدي. إلاّ أن الرجل يستطيع كسر هذا التقليد واختيار الثياب الغربية، مع مراعاة بعض الضوابط، كعدم ارتداء بنطال قصير (فوق الركبة). فيما يفرض على النساء ارتداء عباءات سود. وقد اختير هذا اللون لكونه الأقل لفتاً للرجال. وفي الفترة الأخيرة، سُمِح بإدخال بعض النقوش على أطراف العباءات النسائية لكسر حدة هذا اللون. وتستطيع المسيحية أو الأجنبية الإفراج عن شعرها، من دون أن تتعرّض للمساءلة، فدينها وجنسيتها يحميانها. وتغطّي معظم السعوديات وجوههن، لأنها «عورة» في المملكة.
والممنوعات النسائية تمتد إلى الأطفال، الذين يكبرون باكراً في المملكة الصحراوية؛ فمجرّد أن تبدأ الفتاة بالتحوّل من طفلة إلى شبه أنثى، حتى تخضع للنظام وترتدي العباءة. الممنوعات كثيرة أيضاً؛ ممنوع الاختلاط بين النساء والرجال، الخلوة محرّمة حتى في الأماكن العامة، فصديقان من جنسين مختلفين لا يستطيعان الجلوس في أي مقهى عام. ممنوع على المرأة قيادة السيارة، لكن يُسمح لها بأن تركب سيارة مع سائق. لا يوجد غرف لقياس الثياب داخل المحال التي تبيع ثياباً نسائية، بينما هي متاحة للرجال.
هذه الممنوعات تحتاج إلى من يشرف على عدم تجاوزها، وتقع ضمن مسؤولية الشرطة الدينية، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الحسبة أو المطاوعة. يرتدي أعضاؤها الزي السعودي التقليدي، ويربون اللّحى التي تبدو خشنة وطويلة. ملامحهم حادة وغاضبة في معظم الأحيان. يجولون الشوارع بحثاً عن أي مخالف، وخصوصاً في أوقات الصلاة حيث تُقفل جميع المحال والمؤسسات.
تتوزع مراكز الهيئة في معظم أنحاء المملكة. ولعناصرها قصص كثيرة مع الناس، وخصوصاً الغرباء. وأحمد (45 عاماً)، مصري الجنسية، اختبر واحدة من تلك القصص؛ فهو لم يتزوج حتى اليوم ويفضّل السكن وحيداً. إلّا أنه احتاج إلى استقدام خادمة دائمة في منزله كي تعتني بشؤونه. ولأن هذا الأمر ممنوع في المملكة، وخصوصاً إذا اكتُشف الأمر باعتباره خلوة، اضطر ربيع إلى إقامة عقد زواج مع الخادمة، حتى يكون مكوثها معه «حلالاً»، على الأقل بالنسبة إلى الهيئة.
أما صديقه محمّد، فيذكر حين اقتادته الهيئة إلى أحد مراكزها لأنه كان داخل سيارته المركونة إلى جانب أحد المطاعم في وقت صلاة العصر بدلاً من أن يصلّي. وحين سألوه عن السبب، قال لهم إنه «غير طاهر»، فأجبروه على الاستحمام وأداء صلوات النهار بكاملها.
أما سامي، وهو لبناني الجنسية، فقد واجه هو وأخته موقفاً صعباً؛ فبينما كانا ذاهبين إلى إحدى الأسواق للنزهة، لحقت به إحدى سيارات الهيئة. انتبه سامي إلى أنه لا يحمل أوراقاً تثبت أن الفتاة التي تجلس إلى جانبه هي أخته، فقرر عدم إيقاف السيارة رغم صيحات عناصر الهيئة، عائداً إلى منزله لإحضار الأوراق الثبوتية. إلاّ أنه حين وصل إلى البيت، لم تسمح له الهيئة بإحضار الأوراق، وأصرّت على تزويجه بالفتاة لأنها ضبطتهما في «خلوة» غير شرعية. وانتهت القصة حين حضر شقيق سامي إلى البيت، حاملاً الأوراق الدالة على صدقية أخيه، فانسحب العناصر، من دون الاعتذار عن خطئهم.
كثيرة هي القصص المماثلة التي كانت تشهدها المملكة في الماضي. إلاّ أن اليوم، يمكن ملاحظة تضاؤل التشدّد الذي تمارسه الهيئة بسبب الضغط الخارجي والداخلي؛ فتعامل المطاوعة مع بعض الناس بقسوة مبالغ فيها، كانت له آثاره السلبية عليها.
اليوم، في أوقات الصلاة، تمرّ سيارة الهيئة بمحاذاة الأسواق التجارية، وأحياناً يجول عناصرها في الداخل، داعين إلى الصلاة. يستجيب بعض الناس، فيما يبقى آخرون في أماكنهم ينتظرون فتح المحالّ مجدداً بعد الانتهاء من الصلاة. هذا المشهد كان مستحيل الحدوث في الماضي، إذ كان يُجَرُّ الشباب إلى مراكز الهيئة، فيجبرون على الصلاة، ويوقِّعون على تعهّد بعدم تكرار هذا الفعل، وقد يجلدون.
وبالانتقال إلى مسألة الاختلاط بين الجنسين، لا تزال المطاعم العائلية تفصل العائلات عن بعضها عبر حاجز بلاستيكي أو ستارة، وكأنها أشبه بسجون صغيرة. وتوجد هذه الضوابط داخل المطاعم الأميركية، التي تنتشر بكثافة داخل العاصمة. أما المقاهي، فلا يستطيع أن يقصدها سوى الرجال، إلاّ إذا كانت هناك مقاهٍ عائلية، فتخضع لشروط المطاعم.
هذا الرخاء انسحب بعض الشيء على المرأة، التي قد تسمع بعض العبارات «سافرة، غطّي وجهك يا امرأة، الوجه عورة»، إذا رآها أحد المطاوعة كاشفة عن وجهها، لكن من دون أن يأخذ ولي أمرها إلى مركز الحسبة. هذا ما تقوله ريما، التي تستذكر حادثة قديمة، حين أرجعها عنصر من الهيئة هي وصديقاتها من السوق إلى منزلهن بسيارة أجرة، لأنهن لم يكنّ يرتدين الجوارب لتغطية كاحلهن.
إلا أن هذه الرقابة لم تكن تمنع الخروق، وخصوصاً في المتاجر الراقية، حيث تنشط ظاهرة «الترقيم»، وهي تبادل أرقام الهواتف مع الشبان، فتتعمد النساء إظهار وجوههن إضافة إلى الجزء الأمامي من الرأس. وعادة ما تكون الأجنبيات، وخصوصاً اللبنانيات، الأكثر جذباً للسعوديين، الذين يحاول بعضهم إغراقهن بالهدايا الثمينة التي قد تصل إلى سيارة.
فرح، إحدى بطلات هذا النوع من القصص؛ فشعرها الأشقر وبشرتها البيضاء، كانا كافيين لتعرضها لأكثر من حادثة «ترقيم». تقول إن «أحد الشباب كان مستعداً لإهدائي أي سيارة أطلبها، ومهما كان ثمنها». وتضيف: «كنت آخذ الهدايا من دون أن أخرج معهم».
إلاّ أن هذا كان يثير غيرة الفتيات السعوديات. وتضيف فرح: «حين أكون أنا وأختي واقفتين عند حافة الرصيف بانتظار سيارة أجرة، يسألنا بعض الشباب أن نركب معهم. فتسارع بعض السعوديات إلى السيارة متسائلات: ألا ننفع نحن؟».