حسن شقراني
«حماية المواطنين الروس من إمكان الانجرار ليصبحوا أدوات في ألاعيب البريطانيّين المستفزّة»، هي الحجّة التي قُدّمت لتبرير قيام عناصر جهاز الاستخبارات الروسيّة، «أف أس بي»، باستجواب 10 عاملين روس في المركز الثقافي البريطاني. وهي تمثّل منحى جديداً لصراع بدأ دبلوماسيّاً العام الماضي، ليعيد الآن رسم معالم «الحرب البادرة»، على حدّ تعبير وزير الخارجيّة البريطاني، دايفيد ميليباند.
الإطار النظري في سياقه التاريخي، الممكن تحديده من خلال مقاربة تصرّف موسكو، يقوم على مفهوم الدولة المركزيّة، التي توجّه، إضافة إلى السياسة والاقتصاد، ثقافة البلاد. وتصويب الاتجاهات التي يمكن أن تتخذها جماعات تعتنق «الفكر النقيض للواجب»، يبدو في روسيا الآن مثيلاً لذلك الذي كان سائداً خلال الحقبة السوفياتيّة.
اكتسبت الحرب الباردة في جانبها الأوروبي زخمها الخاص في حلبة الصراع بين جواسيس البلدين، التي كانت قد بدأت أساساً إثر التعاون البريطاني مع «مشروع فينونا الأميركي» لتحليل الشيفرات الروسيّة عام 1942 (حينها كانت موسكو ولندن داخل حلف واحد: «حلفاء الحرب العالميّة الثانية»!). ويمكن الاستذكار، في هذا السياق، حادثة فضح «الجاسوس الشيوعي»، كيم فيلبي، عام 1963، داخل إطار حلقة «كامبريدج خمسة»، إلى جانب اتهام الـ«كاي جي بي» باغتيال حورجي ماركوف عام 1978.
بعد سنوات «الهدنة النسبيّة» في سبعينات القرن الماض، شهد العقد الثمانيني عودة التوتّر إلى أوجه مع السياسة الحديديّة لرئيسة الوزراء البريطانيّة، مارغريت تاتشر، من خلال حلفها اللصيق مع الرئيس الأميركي رونالد ريغن، وما برحت الأمور أن عادت إلى الهدوء مع تسلّم ميخائيل غورباتشوف «الزعامة الشيوعيّة»، وبعدها مع انهيار المنظومة الاشتراكيّة.
بعد 3 سنوات من تسلّم «الجاسوس السابق» فلاديمير بوتين رئاسة روسيا عام 2000، رفضت لندن طلب موسكو تسليمها الملياردير الروسي المنشقّ بوريس بيريزوفسكي، والانفصالي الشيشاني أحمد زاكاييف. وعام 2006، اتهمت الاستخبارات الروسيّة دبلوماسيّين بريطانيّين بالتجسّس من خلال استخدام «صخرة مزيّفة». وبعد ذلك، جاءت قضيّة اغتيال الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو، التي أطلقت «الحرب الدبلوماسيّة» الأكثر ضراوة بين البلدين منذ الحقبة الباردة، ودفعت موسكو إلى مضايقة فرعي «المجلس الثقافي البريطاني» في سانت بطرسبرغ ويكاتيرينبرغ، أخيراً، وهي القضيّة التي انتهت أوّل من أمس، بإغلاق الفرعين. ولم يبق للذراع الثقافيّة البريطانيّة في روسيا سوى فرع موسكو: انتصار لموسكو؟! بالمعنى الضيّق نعم، ولكن...
قد يجادل الكثيرون بشأن مدى دور «الحظر الثقافي» الذي كان مفروضاً على موسكو السوفياتيّة، في تحطّم معنويّات المواطن الروسي. غير أنّ «حرب النجوم» أو غيرها من ابتكارات الحروب الباردة أو الحارّة لا تبرّر العزل الأخلاقي. والحجّة الروسيّة الآن في مواجهة المنظّمات الحكومية وغير الحكوميّة الغربيّة «التي تدسّ الدسائس» تخضع للنقد في هذا الإطار. كما يمكننا، نحن الشرق أوسطيّين، الإفادة في هذا المعنى... هل ذكر أحد سفيرتنا إلى النجوم؟ موضوع شيّق، لكنّ الحجج مختلفة.