أرنست خوري
مرّ يوم واحد على صدور الدراسة الإحصائيّة التي أجرتها مؤسّسة «توركستات»، والتي جاءت نتائجها سلبيّة من ناحية الإضاءة على أنّ نسبة البطالة في تركيا مرتفعة (9,7 في المئة)، قبل أن تُنشَر أمس دراسة مضادّة تردّ الاعتبار لحكومة رجب طيّب أردوغان في سياساتها الاقتصاديّة، والتي تفعل المستحيل لتوسّل أمرين: نيل بطاقة العضويّة في الاتحاد الأوروبي، واكتساب رضى المؤسّسات النقديّة الدوليّة، من بنك دولي وصندوق نقد دولي ومنظّمة تجارة عالمية، وتلبية شروطها ولو كان ذلك على حساب الطبقات الأفقر، خدمة لمصالح رجال الأعمال والتجّار.
ولمّا كان الردّ على «انتكاسة» نتائج «توركستات» يحتاج إلى صدقيّة عالميّة، أتى الحكم بالبراءة على السلوك التركي من مؤسّسة عالمية الصيت والسمعة، وهي صحيفة «وول ستريت جورنال» الاقتصادية الأميركية المتخصّصة. وأهمّ الخلاصات التي أتت بها الدراسة، هي تصنيف تركيا في المرتبة 74 عالميّاً (يسبقها لبنان بمرتبة واحدة) من ناحية تحرّر قطاعات اقتصادها من القيود الجمركية والبيروقراطية والقانونية، وذلك من بين 157 دولة... والأبرز أنّ تركيا سبقت دولاً أوروبية عديدة من ناحية 10 معايير تُحتَسَب للتصنيف، فجاءت في المرتبة 32 من بين 41 دولة أوروبيّة.
ولا بدّ من التوقّف عند الجهة التي أصدرت الدراسة؛ «وول ستريت جورنال»، الجريدة التي يقرأها أكثر من مليوني قارئ يومياً، والتي يصل عمرها إلى 119 عاماً (تأسّست عام 1889). معروف أنها صاحبة التوجّهات المحافظة سياسياً، وهي موغلة في النيوليبراليّة الاقتصاديّة، وقد باتت منذ فترة تقترب أكثر فأكثر من توجّهات الإدارة الأميركية الحاليّة. أحد أكبر المستثمرين فيها، الملياردير الإعلامي الأميركي ـــــ الأوسترالي روبرت موردوخ، هو من أهمّ داعمي الرئيس جورج بوش وإدارته. وبربط منطقي بسيط، وبعيداً عن التشكيك بالنتائج العلميّة للدراسة التركيّة، يُلاحظ أنّ بوش من أقوى محامي الدفاع عن ملفّ دخول أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، ومن مصلحته أن تكون النتيجة الاقتصادية بشأن تركيا متطابقة مع ما أتت به.
ولمّا كانت أهمّ الشروط الاقتصاديّة تلزم أنقرة تقديم المزيد من الخطوات في ميدان تحرير تجارتها وقطاعها المصرفي وقطاع الأعمال والضرائب والخدمات وتنقّل رؤوس الاموال من القيود والحواجز، يمكن القول إنّ نتيجة الدراسة أتت غبّ الطلب بالنسبة للحكومة التركيّة، بما أنها وضعتها في موقع يسبق اليونان، العضو في الاتحاد، بستّ مراتب (المرتبة 80 في مجال الحرية الاقتصادية).
هكذا يمكن ربط المعطيات لاستخلاص ما مفاده أنّ النتيجة الاقتصادية جاءت صفعة في 3 اتجاهات: أوروبياً، سيجد ممانعو العضوية التركية (فرنسا في المقدّمة) صعوبات متزايدة في إقناع العالم بأنّ تركيا متخلّفة عن الشروط الاقتصادية الأوروبية. دوليّاً، ممكن أن تدفع خلاصة الدراسة حكّام أنقرة إلى المطالبة بالمزيد من النفوذ في مؤسّسات العولمة النقدية الثلاثية التي هي عضو فيها، من ناحية المساهمة في الكوتا وفي النسبة المئويّة في التصويت على القرارات المهمّة. وداخليّاً، فإنّ العلمانيّين، الذين سعوا طويلاً إلى تعزيز نفوذ بلادهم داخل مؤسّسات «بريتن وودز» وإلى العضوية الأوروبيّة، سيكونون أيضاً محرَجين لأنهم سيجدون أنّ الحكومة الإسلامية التي يتّهمونها بالانعزال عن «المجتمع الدولي» تحت تأثير توجّهها الإسلامي، تفوّقت عليهم في تحرير القطاعات الاقتصادية من الضمانات الضريبية والاجتماعية للعمّال وللصناعات المحلية.
وحملت الدراسة بشرى إضافيّة لحكّام أنقرة، إذ أظهرت أنّ مستوى الفساد المالي والاقتصادي والتهرّب من الضريبة في تركيا، أقلّ من المؤشّرات السائدة في الاقتصاديات الشرق أوسطيّة المحيطة، وحتّى أدنى من المعدّل المسموح به عالميّاً. حتّى أنّ الدراسة تقدّم صورة مشرقة جدّاً عن السهولة التي يتمتّع بها رجال الأعمال في إبرام الصفقات التجارية في البلاد، حيث «لا تحتاج إلى أكثر من 6 أيام لإنهائها مع جميع المعاملات الإدارية والقانونية التي توجبها»، وهو رقم قياسي، إذ إنّ المعدّل الزمني العالمي هو 43 يوماً.
لا شكّ أنّ دراسة «وول ستريت جورنال» لن تقلب الدفّة جذرياً لمصلحة أردوغان وحكومته، لكنها تسجّل نقطة مهمّة لمصلحته نظراً إلى أنه يحتاج إلى أي دعم خصوصاً إذا كان مصدره أميركياً مقرَّباً من الإدارة، ومعطوفاً على دعم رجال المال والأعمال الأتراك الذين كوّموا الثروات الطائلة في السنوات الأخيرة جرّاء انفتاح بلادهم على خيرات الطفرة النفطية في الخليج العربي.