معاريف ـ عاموس جلبواع
إذاً ما العمل مع غزة؟ في بداية الحرب العالمية الثانية، مثّلت الغواصات الألمانية التهديد الأكبر لبريطانيا عندما دمرت قوافل التوريد إليها من الولايات المتحدة. ذات يوم، وقف في وزارة البحرية البريطانية بروفيسور محترم من إكسفورد وبشّر الجنرالات بأنه يعرف ماذا ينبغي عمله ضد الغواصات الألمانية: عليكم أن تخلقوا فراغاً في المنطقة التي تكمن فيها الغواصات للقوافل، وعندها تنكشف تتمكنون من إبادتها. قال له الجنرالات الذين فوجئوا: «فكرة ممتازة. ولكن كيف يمكن فعل ذلك؟». أجابهم البروفيسور: «هذه مشكلتكم!».
نحن لا ينقصنا «بروفيسوريين» كأولئك، من صغيرهم حتى كبيرهم. واحد يقول باحتلال قطاع غزة وتسليمه إلى أبو مازن ومرابطة قوة عسكرية دولية على حدوده مع مصر؛ آخر يقول الاحتلال، والإبادة، والتطهير، والبقاء هناك لفترة زمنية طويلة في ظل قمع الإرهاب، مثلما حصل في يهودا والسامرة منذ حملة «السور الواقي» في عام 2002؛ ثالث يقول التفاوض مع «حماس» مع وقف نار مؤقت، وجزئي، وطويل؛ رابع يقول بهدم البنى التحتية الاقتصادية في غزة وتصفية كل قادة «حماس»؛ خامس يقول إنه مع غزة يجب «الحديث بلطافة، وإعطاء أمل، وإعطاء أفق سياسي حقيقي، وفقط عدم معاقبة سكانها المساكين»؛ سادس يقول، على النمط الدائم للمثقفين، إن كل ما تفعله حكومة إسرائيل أو ستفعله سيكون غبياً وعديم التفكر الاستراتيجي الواسع.
وما الذي تقوله وتفعله حقاً حكومة إسرائيل؟ أولمرت وباراك على حد سواء عبّرا عن ذلك في نهاية الأسبوع: سنشدد ما نقوم به حتى الآن. أي استمرار سياسة الإحباط بمختلف أنواعها على منفّذي الإرهاب، بشكل متوازن، وموضعي، وتوثيق الحصار الاقتصادي، من أجل جباية الثمن الأعلى الممكن منهم وردعهم.
يبدو لي أن هذه التصريحات تعكس بوضوح شديد امتناع قيادة الدولة عن تنفيذ حملة عسكرية واسعة النطاق داخل قطاع غزة، في أعقاب المعضلات والترددات التي تواجهها. ويمكن تلخيص هذه المعضلات في أربعة مجالات:
ـــ المجال العسكري: هنا تبرز بالطبع مسألة الخسائر التي من شأن الجيش الإسرائيلي أن يتكبّدها، ولكن وراء ذلك يتسلل الخوف من مسألة إن كان الجيش سيقوم بمهمته، «ويوفر البضاعة»، خلافاً لما فعله في حرب لبنان الثانية؟ وسؤال آخر: إذا أعطينا الجيش الإسرائيلي وقتاً آخر للتدرب والاستعداد كما ينبغي، أفلا تستغل «حماس» هذا الوقت أيضاً؟ وتردد آخر: إذا لم نستخدم قوة الجيش الإسرائيلي، ماذا ستكون حال الردع الاسرائيلي على المستوى العملياتي؟
ـــ مجال المنفعة: ماذا سنفعل بعدما ننجح في السيطرة بصورة جيدة على القطاع؟ من سيحرص على مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني؟ نحن؟ الأمم المتحدة؟ هل سننجح في القطاع مثلما نجحنا في يهودا والسامرة، حيث لا تزال، في نهاية الأمر، هناك «سلطة فلسطينية»؟ وعموماً، هل سيبدأ «العالم باتهامنا بإعادة احتلال، وذبح أبرياء»؟
ـــ المجال السياسي: من جهة سيتهموننا بإفشال الخطوة التي بدأت في أنابوليس، عبر إضعاف كل الجهات «المعتدلة»، وعلى رأسها أبو مازن، ومن جهة أخرى، هناك الزعم بأن كل المسيرة السياسية هي نوع من الخداع الخيالي، في ظل تساقط القسام والإرهاب.
ـــ المجال العملي: من جهة، من الواضح للحكومة أنه لا يمكنها أن تترك 200 ألف مواطن لمصيرهم أمام صواريخ «القسّام». ومن جهة أخرى، معظم الشعب الإسرائيلي يواصل حياته العادية في ظل اقتصاد مزدهر. بمعنى، أفلا يكون استمرار الوضع الراهن أفضل من عدم اليقين الشديد الكامن في التورط في المستنقع الغزاوي؟