أرنست خوري
«إثارة سياسيّة» من نوع جديد عمّا ساد في الأشهر الماضية، تستعدّ تركيا لتشهدها في الأيّام أو الأسابيع القليلة المقبلة؛ فبعدما احتلّ موضوع الأكراد والعلويّين صدارة الأحداث والنقاشات في هذا البلد العلماني، عاد موضوع قديم ـ جديد إلى الواجهة، وهو الحجاب الإسلامي الذي لطالما شكّل أبرز المحرّمات الاجتماعية في تركيا

يبدو أنّ التمييز الحاصل بحقّ المحجّبات التركيّات في طريقه نحو «نصف إلغاء»، وذلك بعدما بادر حزب «الحركة القوميّة التركيّة» (قومي متطرّف قريب من العسكر يمثّله 70 نائباً من أصل 550 في البرلمان)، يوم الخميس الماضي، لملاقاة تصريحات رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان عن أن «الحجاب لا يجب أن يُحَظر ارتداؤه، رغم كونه رمزاً سياسياً»، في منتصف الطريق، وذلك عبر إعداده لتعديل دستوري يطال المادّة 10 من الدستور، والتي تمنع ارتداء هذا الرمز الديني في المدارس والجامعات التركيّة.
هذا الحراك السياسي، الذي عبّرت عنه المبادرة المفاجئة لـ«الحركة القومية»، قسّم الساحة السياسية على الفور، إلى معسكرين اثنين: معارض للتحالف الضمني بين «العدالة والتنمية» (340 نائباً)، الذي رحّب بالسلوك القومي. ومؤيّد لهذا التحالف، ما يمهّد الطريق لإقرار تعديل دستوري يلغي الحظر المفروض على الحجاب في المدارس والجامعات. تحالف يذكّر بما حصل في آب الماضي، عندما سمحت الأصوات الـ70 للحركة القومية بانتخاب عبد الله غول رئيساً للبلاد.
غير أنّ الأمور ليست بالبساطة التي قد يوحي بها تسارع الأحداث منذ يوم الخميس الماضي؛ فخطوة «الحركة القومية»، ليست هديّة مجّانية لـ«العدالة والتنمية» الإسلامي، بل الهدف الحقيقي منها يذهب عكس ذلك. فالتعديل الذي اقترحه الحزب اليميني المتطرّف، يحصر السماح بارتداء الحجاب بالمستفيدين من المرافق العامّة، لا بالموظّفين الرسميّين الذين يقدّمون هذه الخدمات. بمعنى آخر، فإنّه إذا وصل التعديل إلى خواتيمه السعيدة سيكون مسموحاً للفتيات التركيّات المحجّبات التعلّم في المدارس والجامعات والتخرّج منها، لكن التعيين في الوظيفة العامّة سيبقى ممنوعاً عليهنّ قبل أن ينزعن الحجاب.
أمّا السبب الذي دفع «الحركة القومية» إلى الإقدام على الخطوة، فبات واضحاً: إنّ «العدالة والتنمية»، ومنذ إحكامه القبضة على مؤسّسات البلاد التشريعية والتنفيذية والرئاسية، يعد ناخبيه بتعديل دستوري شامل، يصل إلى إقرار دستور جديد، يزيل جميع المحظورات المفروضة على الرموز الإسلامية. وكان الحزب الإسلامي، وفي سبيل هذا الهدف، يستعدّ لحملة تعبئة لشارعه على خلفيّة حظر ارتداء الحجاب في المؤسّسات التربوية كما في الوظيفة العامّة. ونظراً للشعبيّة التي بات يتمتّع بها، كان متوقّعاً للحملة أن تؤمّن له دفعاً استثنائياً لتبرير التعديل الذي من المقرَّر أن يطال عشرات المواد الدستوريّة. أمام هذا الواقع، أراد «الحركة القومية» أن يسبق الخطوة الإسلامية على اعتبار أنّ إلغاء الحظر على ارتداء الحجاب بات لا مفرّ منه، كما كان عليه حال انتخاب غول في الصيف الماضي.
وبدل أن يُسمَح لحزب أردوغان بأن يسيّس الموضوع (ورئيس الوزراء اعترف بأن للموضوع جانباً سياسياً عندما أقرّ من مدريد بأنّ الحجاب يحمل رمزاً سياسيّاً)، وينتهي بتعديل دستوري شامل، بادر «الحركة القومية» إلى قطع الطريق عليه: اقترح إلغاء الحظر على أن يطال فقط الطالبات، لا الموظّفات. وهكذا، وجد الحزب الحاكم نفسه أمام «مأزق»؛ فإن رفض المبادرة القومية، على اعتبار أنها مجتزأة ولا تزيل الحرمان عن المحجّبات بشكل كامل، سيبدو في عين جزء كبير من الرأي العام، متطرّفاً في مطالبه الإسلامية، لأنه يريد «الانقلاب» على الدستور، لا تعديله تدريجياً. وإن وافق على الاقتراح (وهو يسير في هذا الاتجاه في ظلّ ترحيبه بالمبادرة)، سيكون موافقاً ضمناً على تأجيل التعديل الدستوري الشامل، إلى سنوات مقبلة.
في جميع الأحوال، فإنّ الحزب الإسلامي قرّر السير إلى النهاية مع «الحركة القوميّة»، فألّف لجنة نيابية لدراسة الاقتراح الدستوري والتنسيق مع نواب الحزب القومي تمهيداً لتقديم مشروع تعديل «في أقرب فرصة»، على حدّ تعبير مسؤولي الحزبَين. ولا يبدو أنّ «العدالة والتنمية» سيكون مصرّاً حتّى النهاية على رغبته إقران تعديل المادّة 10 بتعديل المادّة 42 التي تمنع الوظيفة العامّة عن المحجّبات؛ فأعلن على لسان نائب رئيس الحزب، نهاد إرغون، أنّ وظيفة اللجنة التي تشكّلت، «البحث في ما إذا كان تعديل المادّة 10 سيكون كافياً لإلغاء الحظر»، غير أنه عاد ورأى أنّ الخطوة ستسهّل السير بتعديل دستوري أشمل وإن في وقت لاحق.
من جهته، برّر نائب رئيس «الحركة القومية»، تونكا توسكاي، مبادرة حزبه «الانفتاحيّة»، بالقول «لن نسمح لهم (العدالة والتنمية) بتجييش الرأي العام لمصلحتهم عبر المزج بين الدستور الجديد وإلغاء الحظر على ارتداء الحجاب».
هذا من ناحية المؤيّدين للتعديل الدستوري «الجزئي»، أمّا في المعسكر المقابل، فقد رأى حزب «الشعب الجمهوري» (علماني متشدّد قريب من العسكر وهو ثاني أكبر كتلة نيابية مع 98 نائباً)، في «التحالف» بين الحزبين «تسابقاً على تسييس الموضوع قبل الانتخابات المحلية» المقرّرة العام المقبل، على حدّ تعبير نائب رئيس الحزب سلفات سلفي، الذي استغرب إثارة القضية «لأنه من غير المجدي السماح بارتداء الحجاب للطالبات ما دمن سيبقين مجبرات على خلعه إذا أردن دخول الوظيفة العامّة».
ورغم أنّ الحزب الديموقراطي اليساري (14 نائباً) وجزءاً من نوّاب «المجتمع الديموقراطي» الكردي (22 نائباً) يقفون إلى جانب «الشعب الجمهوري» في معارضة التعديل الدستوري، فإنّ أصوات «الحركة القومية» و«العدالة والتنمية» ستكون كافية لتأمين الغالبية الكافية لإقراره في مجلس النواب.
أمّا التحدّي الأكبر، فقد صدر مساء يوم الجمعة الماضي، عندما وزّع مجلس شورى الدولة ومحكمة التمييز بيانين وصفا تعديل المادّة 10 «ذهاباً بعكس تقدّم الدولة ومناقضاً للمبادئ العلمانيّة الأساسية غير القابلة للمسّ».