باريس ــ بسّام الطيارة
لا شك في أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يحتل الساحة الإعلامية بكل زواياها. أكان ذلك في حياته الخاصة من قصة طلاقه إلى حكاية علاقته مع عارضة الأزياء كارلا بروني مروراً برحلاته على يخوت الأثرياء، أو في سياسته الداخلية من القطيعة إلى الانفتاح مروراً بسياسة تنفيس الإضرابات، أم في سياسته الخارجية انطلاقاً من «أطلسيته» إلى «جولاته لبيع مفاعلات نووية سلمية»، مروراً بخطاب دكار الذي وصف بـ «العنصري». وها هو يدخل اليوم زاوية «الدين» في المرآة التي تعكس صورته ويؤجّج من خلالها التراشق الإعلامي حوله.
كان الملك السعودي عبد الله قد وصف ساركوزي عند أول لقاء لهما في باريس بـ«الحصان الجامح» قبل أن يكتشف العالم «تعدد الأوجه» التي يمكن الرئيس الفرنسي أن يفاجئه بها. وبحسب عدد من الصحف، فإن ساركوزي بادر الملك عند استقباله في الرياض بقوله «إن الحصان الجامح سعيد بلقاء صديقه الكبير الحكيم»، في إشارة استعارية لسيناريوات أفلام الكاوبوي عندما يلتقي «الرجل الأبيض بزعيم الهنود الحمر».
رغم هذا، خرج الرئيس الفرنسي من المملكة الوهابية وجعبة العقود التجارية خالية مع «الإشارة» إلى توقيع معاهدات تعاون «ثقافية وسياسية» بقيت دون المبالغ الخيالية التي تحدثت عن أربعين مليار يورو في حملة إعلامية سبقت الزيارة الخليجية ولم تترك أي أثر على البلاط السعودي.
وعوّض ساركوزي عن غياب الطلبات الرنانة بخطابٍ أمام مجلس الشورى السعودي تطرق فيه إلى «الحوار بين الثقافات والدين والقيم المشتركة». وقد لاحظ المراقبون أن الخطاب، الذي صفق له المستمعون السعوديين، قد تضمن ما لا يقل عن «١٣ إشارة دينية» وصل صداها إلى المجتمع الفرنسي الذي يفخر بعلمانيته ويعدّها من أسس جمهوريته التي ورثها عن الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان. وتأتي حادثة «الخطاب الديني في الرياض» بعد أسابيع على «خطاب ديني آخر في الفاتيكان» أثار الحساسيات نفسها وردّات الفعل عندما تحدث عن «الأصول المسيحية لفرنسا».
وأعاد كل ذلك التذكير بأن ساركوزي، الذي «يفعل ما يقول»، كان قد أعدّ عام ٢٠٠٤ كتاباً صدر تحت عنوان «الجمهورية والديانات والأمل» عن دار «سيرف»، رأى البعض أنّه «نقطة انطلاقه نحو سباق الرئاسة». والكتاب الصغير عبارة عن مقابلة أجراها ساركوزي حين كان وزيراً للداخلية مع كل من الفيلسوف تيبو كولان ورجل الدين الدومينيكي الأب فيليب فيردان، يعالج في فصوله الستة شتى المواضيع المتعلقة بالديانات من «الفعل الديني» إلى «الدين والتربية» مروراً بالـ«الإسلام والجمهورية» و«الكنائس وأوروبا» و«الدين والتربية». ويشدد في الفصل الثالث على «قانون ١٩٠٥» الذي يفصل بين الكنيسة والجمهورية، والذي يُعدّ قاعدة العلمانية في فرنسا وفي الدول التي قلّدتها في هذا المسار.
وخلال زيارة الفاتيكان، أهدى ساركوزي هذا الكتاب إلى البابا بندكتوس السادس عشر، الذي قلّده في المقابل وساماً ومنحه «عضوية كنيسة يوحنا ليتران» في إعادة إحياء لتقليد يعود إلى القرن الرابع عشر يربط الفاتيكان بفرنسا «البنت البكر» للكنيسة الكاثوليكية.
ويقول متابعون للمسار السياسي لساركوزي إنه «أول رئيس جمهورية فرنسي يُفصح عن تدينه وإيمانه» بشكل علني من دون أن يراعي علمانية الجمهورية، وهو ما لم يفعله كل رؤسائها السابقين. ورغم «تلطي» ساركوزي فكرياً وراء المثقف الشهير أندريه مالرو، الذي قال «إن القرن الواحد والعشرين سيكون دينياً بلا منازع وإلا فلن يكون» في تبريره لمقاربته الدينية للشأن السياسي، رأى بعضهم أن «رمي هذا الكتاب» في أيدي الفرنسيين عشية الاحتفال بمرور قرن على صدور القانون كان مجرد «لفتة انتخابية» موجّهة إلى المتدينين بشكل عام، وخصوصاً المسيحين في اليمين المتطرف الذين يحاربون هذا القانون تاريخياً، والمسلمين الذين يرون فيه «عائقاً أمام مساعدات الدولة لهم»، فيما رأى آخرون، وخصوصاً بعد «صدور إشارات دينية» متعددة في الأسابيع الأخيرة، أن هذا الكتاب، الذي أعادته التصريحات الأخيرة لساركوزي إلى واجهة التداول، كان يعبّر عن توجّه أصولي لدى الرئيس الفرنسي بتأكيده أن «الدين والجمهورية متكاملان».
وأمام تصاعد موجة الاستياء، أكد ساركوزي في نهاية الأسبوع تمسكه بمبدأ العلمنة، مشدداً على أنه «مبدأ احترام كل المؤمنين لا معركة ضد الأديان»، وذلك خلال استقباله ممثلي السلطات الدينية لتقديم تهاني السنة الجديدة. إلا أنه لم يتردد في العودة إلى التاريخ والحديث عن الظروف «التي قادت إلى فصل الكنيسة عن الدولة»، والتي رأى أنها «مؤلمة لأن الأمر كان يتعلق بقطع روابط قديمة متعددة». واستطرد بأنه «لا يحق لأحد أن يشعر بأن العلمانية تخدش مشاعره»، في عودة للتذكير بحديثه في الفاتيكان عن «الأصول المسيحية لفرنسا» وحديثه عن الإسلام أمام مجلس الشورى السعودي الذي رأى فيه مقربون منه «أنه يسهم بإبعاد خطر صراع الحضارات».
وفيما شدد المتحدث باسم الرئاسة، دافييد مارتينو، على أن «قيم التنوع والتسامح والتفاهم والاحترام» هي في قلب «سياسة الحضارة» التي وضعها ساركوزي كـ«إطار للحكم» وتوجه عام لسياسته، بدأت الصحافة المعارضة تنظر إلى هذه السياسة إلى أنها تهدد «القيم التي تحمل أسس الجمهورية» والتي تَوافق الفرنسيون على أن تكون قيمهم. ويمكن من متابعة المسار السياسي لساركوزي القول إن استعماله شعار سياسة الحضارة للفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، «ليس فقط مناورة موجهة إلى الساحة السياسية الداخلية»، إذ إنه في بداية عهد جديد ويمسك بأكثرية «مطيعة ومريحة» وليس هناك انتخابات نيابية تهدد حكمه قبل أربع سنوات، إضافة إلى تفكك المعارضة وتفتتها. وهو ما يشير إلى أن هذا التوجه مبني على قناعات عميقة للرجل بأن هذه «الدعوة السياسة» في خضم أزمات العولمة وحماية البيئة والحوار بين الشمال والجنوب وصراع الحضارات يمكن أن تفتح سبيلاً «لتوجه غربي حديث ومنفتح» يخلف التوجه الإمبريالي الأميركي، الذي سوف يمكن أن تُطوي صفحته في نهاية ولاية بوش، والذي سبّب نفوراً لدى شعوب كثيرة، ومن دون الابتعاد عن موجة التدين المتصاعدة في العالم، ولكن دون أن يقع في مطب مواجهة الأديان، لذا فهو مسار منسجم مع الدين يتلون خطابه بلون كاثوليكي في الفاتيكان ويصبغ بلون الانفتاح في الرياض.