strong>طوني صغبيني
السلطات عبّأت الحزب الحاكم للسيطرة على العاصمة خشية تعكير صفو الألعاب

عندما تتلألأ شعلة الأولمبياد في سماء الصين هذا الصيف، لن يكون الحدث مجالاً للتنافس بين أفضل رياضيي العالم فقط، بل أيضاً فرصة قد لا تتكرر لبكين لإيصال رسائل سياسية كثيرة، في الوقت الذي لن يكون فيه التحدي الأكبر لها في مضامير المباريات، بل في أروقة الدولة والساحات العامة.
إن إقامة الألعاب الأولمبية على أراضي العملاق الآسيوي الذي يقتحم اليوم النظام الدولي من بابه الواسع، يحمل بحدّ ذاته دلالة سياسية، فضلاً عن الاهتمام الإعلامي والشعبي الضخم الذي يرافق هذا الحدث الدولي عادة. فهو يغري الحكومات ومعارضيها على السواء باستغلاله في السياسة.
وللأولمبياد تاريخ سياسي طويل، لعلّ أبرز محطاته كانت في عام 1936 عندما اعتُبرت إقامتها في ألمانيا شهادة على أن النظام النازي الحاكم وقتها في برلين مقبول دولياً. كما كان الأولمبياد الياباني عام 1964 بمثابة حفل ترحيب لطوكيو التي نبذت النزعة العسكرية واستعادت ازدهارها الاقتصادي.
أما في ما يتعلق ببكين، فالاعتبارات السياسية كانت في الواقع الدافع الأول لترشحها لاستضافة الألعاب الأولمبية؛ فالرئيس دينغ كسياو بينغ أعلن عام 1990 رغبة بلاده في استضافة الألعاب لتحسين صورة النظام الشيوعي الحاكم التي تضررت بشدة إثر أحداث ساحة تيانانمان قبل عام من ذلك. ولم يُقبل طلب الصين إلا في عام 2001، وذلك بعد سلسلة إصلاحات صعبة أسهمت بانفتاح بكين على العالم بطريقة غير مسبوقة.
ومنذ اللحظة الأولى لإعلان التنين الآسيوي مضيفاً للدورة الأولمبية التاسعة والعشرين، انطلقت الدعاية السياسية في جميع الجهات، ولا سيما من المجموعات الغاضبة من بكين.
ففي واشنطن، وقّع 106 أعضاء في الكونغرس عريضة تطالب الإدارة الأميركية بمقاطعة الأولمبياد ردّاً على دعم الحكومة الصينية للرئيس عمر حسن البشير في السودان. كما اقترحت النائبة ماكسن واترز سنّ قانون بهذا الشأن. وانتقدت تايوان الحدث بشدة وأطلق بعض صحافييها اسم «أولمبياد الإبادة» على الدورة.
وسرعان ما بدأ عدد من الناشطين الدوليين باستغلال الحدث لممارسة الضغوط على بكين، كسفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة، ميا فارو، التي نظمت مع عدد من المشاهير حملة بعنوان «احلم من أجل دارفور»، والمخرج الأميركي الشهير ستيفن سبيلبرغ الذي اشترط رفع الغطاء الصيني عن النظام السوداني للمشاركة في تصميم الاحتفالات الافتتاحية للأولمبياد.
لكن التحدي الأكبر الذي سيواجه بكين خلال الدورة هو داخلي، حيث أعلنت مجموعات عديدة نيتها الاستفادة من الحدث «لإسماع العالم صوتها». وتخطط مجموعات من هضبة التيبت التي تخضع للحكم الصيني لإقامة عدد من الاحتجاجات السياسية بالتزامن مع الأولمبياد، وكذلك يخطط عدد من الجمعيات والمنظمات المعارضة مثل «مجموعة المدافعين عن حقوق الإنسان في الصين».
في المقابل، عبأت القيادة الصينية صفوف الحزب الشيوعي، وجنّدت أكثر من مليون شخص للمشاركة في تنظيم الألعاب في بكين والسيطرة على المدينة، فيما تشنّ قوات الأمن حملة قاسية أحياناً تحت عنوان «مكافحة التهديدات الإرهابية» شملت مئات المعارضين وناشطي حقوق الإنسان وكاتبي العرائض وأفراداً من طوائف «غير شرعية» في مختلف أنحاء البلاد. ورغم تصاعد حدّة الانتقادات للحملة التي وصفت بـ«اضطهاد ما قبل الألعاب الأولمبية»، لا يبدو أن بكين مستعدة للتساهل مع الناشطين، لأن حصول تيانانمان جديدة تحت أنظار ملايين المشاهدين، رغم استبعاد حصولها، هو الكابوس الأكبر لها.
ولعلّ الخوف من الاضطرابات لا يقتصر فقط على بكين، بل يطال أيضاً شركاءها الدوليين، ولا سيما في مجالي التجارة والاقتصاد، كفرنسا والولايات المتحدة، اللتين تتعرض حكومتاهما لانتقادات داخلية قاسية بسبب العقود البالغة مليارات الدولارات التي ترمي جانباً اعتبارات حقوق الإنسان والديموقراطية وكل الشعارات المعلنة لسياساتهما الخارجية. وهذا ما يمكن أن يفسّر التهليل الغربي بعد تخفيف القيود على الصحافيين خلال الأولمبياد، واعتبار ذلك دليلاً ساطعاً على انفتاح بكين وعلى دور الألعاب الأولمبية في دفعها لإبداء مزيد من الليونة الداخلية.
وبغضّ النظر عن المشاهد السياسية المحتملة في الصين خلال الصيف الجاري، لن ينفي ذلك الدلالة السياسية الأكبر التي حملها قرار إجراء الأولمبياد على أراضيها. قرار عبّر بطريقة أو بأخرى عن «قبول دولي» بالصعود الصيني والاقتناع (أو على الأقل ترسيخ) شعار بكين الأهم لهذا العقد القائل بأن النهضة الصينية «تمثل للعالم فرصة لا تحدياً».