أرنست خوري
عشر سنوات مرّت على توقيع «اتفاق بلفاست»، أو «الجمعة العظيمة»، انتهت بموجبه حقبة سوداء من تاريخ الاقتتال بين كاثوليك وبروتستانت إيرلندا الشماليّة، بدأت عام 1968 وانتهت عام 1998، وكان أوجها في يوم «الجمعة الدموي» في مثل هذا اليوم (30 كانون الثاني) عام 1972، حين قتلت قوّات الشرطة عدداً كبيراً من المتظاهرين الكاثوليك الجمهوريّين (46 في المئة من مواطني إيرلندا الشمالية) المناهضين للانضمام إلى التاج الملكي البريطاني، وهو الخيار الذي يدعمه البروتستانت (54 في المئة من السكّان).
وبعدما قدّم الطرفان تجربة من أشرس المواجهات الطائفيّة في التاريخ الحديث، قرّرا في فترة السلم، خوض حرب من نوع آخر، ليست سوى «حرب سياحة»، أو «سياحة حربيّة»، تقوم على جذب مئات آلاف الأجانب، وتنظيم الجولات على القرى التي شهدت المعارك بين الطرفين، وعلى معتقلات التعذيب. جولات يقدّم خلالها المرشدون السياحيّون روايات تختلف عن السيناريوهات التي يقدّمها الآخرون، عن أسباب الحرب، ومن المذنب في إشعالها، ومن يتحمّل مسؤوليّة ارتكاب الجرائم... وتتركّز النشاطات في المدن المختلطة التي عرفت أعتى المجازر، وخصوصاً في مدينة ساوث أرماغ والأحياء الغربيّة من العاصمة بلفاست (هي عاصمة الإقليم الإيرلندي الشمالي بما أنّ هذا البلد لا يزال منضوياً تحت التاج الملكي البريطاني إلى جانب اسكتلندا وويلز وبريطانيا).
أمّا المرشدون السياحيّون، فليسوا سوى المقاتلين والسجناء السابقين في المعسكرين. وجزء كبير منهم باتت مهنته تقوم على إخبار الأجانب «بطولاته»، ما يؤدّي إلى أنّ حرب العشرين عاماً، والتي عرفت مجازر متبادلة غطّتها لندن بدعمها لحلفائها البروتستانت، باتت تعرف نسختين يرويها كلّ طرف على طريقته.
وكان جمهوريّو البلاد (من الكاثوليك)، السبّاقين في ابتداع هذا النوع من «النشاطات»، فكانوا أوّل من أسّس الشركات السياحيّة، التي تُعنَى بشكل شبه حصري، بالجولات السياحية الحربيّة، وهي جولات يسمّيها البعض «جولات رعب»، يتمّ خلالها «توظيف التاريخ الدموي في السياحة». واضطرّ البروتستانت الملكيّين إلى اللحاق بالركب السياحي الجمهوري؛ استنفروا قواهم وطاقاتهم لمواجهة «المدّ السياحي» الكاثوليكي بحملة سياحيّة مضادّة، «لمنع تزوير التاريخ وإحباط الرواية الجمهوريّة عن الحرب التي صوّرت 20 سنة من هدر الدماء، بأنها كانت دفاعاً عن النفس في مواجهة عصابات بروتستانتيّة رديفة للجيش البريطاني»، على حدّ تعبير الصحافي بينوا ليتي في تحقيق لمجلّة «لو موند ديبلوماتيك» في عددها لهذا الشهر.
أمام هذا الواقع الذي يحتدم وغالباً ما يوتّر الأجواء بين المجموعتين، تجد الحكومة الائتلافيّة نفسها أمام إحراج كبير؛ فبعد انتخابات الصيف الماضي، وجد الطرفان المتحاربان سابقاً نفسيهما في خندق واحد، فألّفا حكومة تولّى رئاستها يان بايسلي البروتستانتي، ونائبه مارتن ماكغينيس القيادي في حزب «شين فاين» الكاثوليكي الجمهوري والتنظيم العسكري التابع له، «الجيش الجمهوري الإيرلندي».
وكي لا تنقسم الحكومة بين رحى «السياحة الحربيّة»، قرّرت فعل المستحيل للتركيز على المعالم السياحيّة التي لا تمسّ الذاكرة الحربية في البلاد. حتّى إنّ الموقع الرسمي لوزارة السياحة الإيرلندية الشماليّة، www.discovernorthernireland.com يتحاشى الإشارة إلى ازدهار هذا النوع من «السياحة الحربيّة»، التي من الواضح أنّ الجمهوريّين ربحوا فيها، لتعويض شيء من الخسارة التي طالت جميع الأفرقاء في الحرب الأهليّة.