باريس ــ بسّام الطيارة
من أي نافذة دخل جيروم كيرفييل (رجل الـ٥ مليارات يورو) التاريخ؟ يرى البعض فيه «محتالاً طمّاعاً» لم يعرف التوقف عند قدر معين من الأرباح، بينما يرى آخرون أنه «عبقري الأدوات المالية» في عصر الإنترنت، ويصنّفه عديدون بأنه «مغامر طائش» أحرق المليارات ليثبت تفوّقه على منافسيه. والسؤال الذي لا جواب عنه هو أين ذهبت هذه المليارات؟
طرح السؤال وغياب الإجابة الواضحة هما أهم ما نتج من فعلة كيرفييل، إذ إنه سلّط الأضواء على «النظام المالي الافتراضي» الذي يتحكم بمصير العالم والشعوب.
ماذا فعل جيروم كيرفييل؟ وماذا قال للشرطة؟
بدأت تطفو على سطح التداول الإعلامي بعض التسريبات عن إجابات «العبقري» للشرطة المالية خلال التحقيقات الأوّلية، في فترة التوقيف الاحتياطي التي انتهت إلى توجيه تهمة «سوء أمانة» قبل إطلاق سبيله. ويرى المختصون بـ«جرائم الياقات الزرق»، في إشارة إلى الجنح المالية، أن إطلاق سراح الموظف الصغير يشير إلى أن هناك «مسؤوليات على مستوى أعلى»، وأن اعترافاته أقنعت الشرطة بأنه «حلقة من حلقات متعددة»، وخصوصاً بعد ثبوت عدم وجود «حالة إثراء غير مشروع».
لقد روى كيرفييل للشرطة «حقيقة ما يحدث في باطن المصارف وفي عرين مصانع الثروات». وبعدما وصف أسلوب العمل في «صالات المقاصّة» وراء شاشات الكومبيوتر المربوطة بالبورصات العالمية من جهة وبصالة أوامر البيع والشراء، انتقل إلى شرح صميم عمل المكلّف بجني أرباح للمصرف، من خلال اللعب على فارق السعر بين «وضعية البائع والمشتري»، وهو ما يسمى «التحكيم»، وهو ما كان يقوم به منذ عام ٢٠٠٥.
وأشار كيرفييل إلى أنه «وفّر أرباحاً طائلة للمصرف» منذ تسلّم موقعه هذا، باللجوء إلى العمليات نفسها التي يلومه المصرف اليوم عليها. فهو قد «لعب وراهن على تراجع أسهم شركات التأمين أليانز»، ما سمح له بربح ٥٠٠ ألف يورو لمصلحة «سوسيتيه جنرال». واعترف بأنه كان يحمي «وضعيته بوضعيات مقابلة»، فإذا كان مشترياً، كان يخلق وضعية بائع افتراضية تخفي «التزامات المصرف»، الذي شجعه على متابعة عمله «من دون الدخول في تفاصيله»، مشدداً على أن «مجرد رقابة صغيرة كانت كافية لمعرفة طريقة عمله». وفي السنة الأولى، وصلت أرباح المصرف على يد الموظف الصغير إلى ٢٨ مليون يورو.
وقد تابع كيرفييل نشاطه مع تشجيع مباشر من المصرف. وخلال الأزمة الآسيوية مطلع ٢٠٠٦، راهن على انحسار الأسعار، فحقق في شهر تموز ربحاً وصل إلى ٥٠٠ مليون يورو. ويعترف بأنه «عجز عن البوح للمسؤولين» لشدة فرحته بنجاحه غير المنتظر، فاكتفى بإعلان ٥٥ مليون يورو ربحاً فكوفئ بـ٣٠٠ ألف يورو. وتابع أنه وضع الأرباح الباقية في مراهنات جديدة زادت من أرباح المصرف لتصل إلى مليار وأربعمئة مليون يورو، ما زاد صعوبة الإفصاح عنها.
ولما اندلعت أزمة «الرهن العقاري»، بدأت مواقع كيرفييل الافتراضية، التي بلغت ٥٥ مليار يورو، بالتراجع. وبحسب تصريحاته، كان يمكنه التخلص رويداً رويداً منها وقطف بعض الأرباح، وهذا ما أراد فعله «بصمت»، إلا أن إدارة المصرف أوقفته عن العمل وكفّت يده. ويتهم الإدارة صراحة بأنها كانت «على علم بطرق عمله، وأنها لم تتخذ أي إجراء لمنعه لأنها كانت تجني أرباحاً»، وأن أزمة الائتمان الأميركية هي التي جعلت الإدارة «ترتجف» وتبيع مواقعه وتسبّب لنفسها خسارة قدرها ٥ مليارات يورو.
وتلتقي اتهامات الموظف للمصرف مع تعليق بعض المحللين، الذين رأوا أن «سوسيتيه جنرال» «تسرّع ببيع التزاماته دفعة واحدة بخسارة»، ما أسهم في تراجع أسواق الأسهم العالمية وبالتالي انهيار البورصة.
وانهيار أسعار أسهم «سوسيتيه جنرال» بنسبة ٤٠ في المئة جعل منه «هدفاً لعمليات وضع يد» من جانب مصارف كبيرة. وقد صرّحت الحكومة الفرنسية بأنها لن تسمح بأن يشتري مصرف أجنبي «سوسيتيه جنرال»، ما زاد من قوة الشائعات عن قرب وضع يد بنك «ناسيونال دو باري» الفرنسي عليه، فهرع المضاربون إلى شراء أسهم «سوسيتيه جنرال» طمعاً بربح سخي إذا جرت عملية البيع.