strong>أرنست خوري
يوماً ما سوف تنتهي الحرب في العراق. غير أنّ تداعيات الاحتلال مرشّحة لأن تطول، لا في بلاد الرافدين فحسب، بل في دول الجوار كذلك، بحيث إنّ نحو مليونين ونصف مليون لاجئ عراقي يعيشون في دول تجعلها تركيبتها الحسّاسة، معرّضة للانفجار. فهل يشتعل الفتيل من مخيّمات الشتات؟

يرسم الأميركيون وحلفاؤهم في العراق، مشهداً جميلاً عن التقدّم الحاصل في البلاد، أمنياً وحتّى سياسياً. ولا شكّ أنّ ألدّ أعداء المشروع الأميركي في المنطقة، يعترفون ولو على مضض، بأنّ الأزمة الأميركية في العراق في طريقها إلى الحلحلة.
غير أنّ «مصيبة» ضخمة يتعمّد الرأس المدبّر الأميركي السكوت عنها، والتخفيف من وقع خطرها المقبل لا محال، ومحاولة تصويرها على أنها مجرّد قضيّة إنسانية، تستوجب أقصى ما تستوجبه، الشفقة لا أكثر، وهي قضيّة اللاجئين العراقيّين في دول الجوار، وخصوصاً سوريا والأردن.
منذ الاحتلال وانبلاج فجر الحرب الطائفية في العراق، مع تفجير مرقد الإمامين العسكريين في شباط الماضي، بدأت تعلو في العالم التحذيرات من تحوّل قضيّة اللاجئين العراقيّين، مع ما تحمله من تفرّعات اجتماعية وسياسية واقتصادية، إلى قنبلة تفجّر المنطقة أكثر مما هي متفجّرة اليوم. لكن في الوقت الذي كان يصل فيه عدد القتلى العراقيّين إلى أكثر من 1992 شهرياً (كانون الثاني 2007 مثلاً)، والأميركيين إلى 124 شهرياً (أيار الماضي)، لم يكن هناك مجال لإيلائها الاهتمام الكافي والذي تستحقّه.
فهل الشرق الأوسط اليوم يستعدّ لقرن مقبل، يحتلّ خلاله لاجئو العراق عنوان الحدث، على نسق ما حصل مع لاجئي فلسطين في القرن الماضي، ولا يزالون حتّى إشعار آخر؟

أكبر نكبة لاجئين في التاريخ

في عام 1948، أدّت «نكبة» فلسطين إلى هجرة قسرية لـ700 ألف لاجئ فلسطيني في كلّ مكان في العالم العربي. وبعد 60 عاماً، ليس بسرّ القول إنّ مخيّمات اللاجئين في الشتات، وقضية عودتهم وحقوقهم وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية في الدول المضيفة... كلّها كانت عوامل تمّ توظيفها في معظم الحروب الأهلية والإقليمية التي عرفتها المنطقة على امتداد عقود ستّة، وهي مرشّحة للتمديد.
صحيح أنّ الوضع اليوم في الحالة العراقيّة يختلف في نواح عديدة عمّا كانت عليه مسألة تهجير فلسطينيي الـ1948 ومن بعدهم الـ1967، غير أنّه في المحصّلة، يبقى هناك تقاطعات تجمع أحوال جميع اللاجئين الناجمين عن حروب، أهلية كانت أم بين دول. والأمثلة التاريخية لا تنضب في هذا السياق، منها القريب من منطقتنا العربية، وبعضها الآخر أبعد.
وتعدّد دراسة أعدّها دانيال بيمان لـ«معهد بروكينغز» الأميركي نُشرت منتصف تشرين الثاني الماضي، عدداً من الأمثلة أبرزها:
ــ الحالة الرواندية: بعد الإبادة التي شهدتها البلاد عام 1994، وفد عشرات الآلاف من قبائل الـ«هوتو» بصفة لاجئين إلى دولة الكونغو الديموقراطية المجاورة، وحوّلوا مخيّماتهم إلى مقارّ تدريب للمقاتلين الذين يُرسَلون لمقاتلة الحكومة الرواندية التي ألّفتها قبيلة الـ«توتسي». وقد أدّى هذا في ما بعد إلى حروب دامية بين رواندا والكونغو، مات فيها الملايين. ليس الأمر هنا بمقارنة نظرية بين حالتين بعيدتين في الزمن والجغرافيا، لأنّه غالباً ما يتمّ توظيف اللاجئين في الدول المضيفة في حروب صغيرة وكبيرة. والحالة العراقيّة حسّاسة جداً في هذا المجال، وخصوصاً حين يلاحظ المراقب درجة ضعف الأنظمة التي تستضيف اللاجئين العراقيين، أكان النظام السوري أو حتّى الأردني الذي لا يزال يعاني أصلاً من أزمة هويّة ومواطنية على خلفيّة كون جزء كبير من مواطني المملكة الهاشمية هم من مجنّسين فلسطينيّين.
ــ الحرب الإيرانية ـــــ العراقية: بين 1981 و1988، سلّحت إيران الآلاف من اللاجئين العراقيّين على أراضيها لمقاتلة نظام صدّام حسين. ومعظم هؤلاء تنظّموا تحت لواء «منظّمة بدر» التي تنضوي تحت لواء «المجلس الإسلامي الأعلى في العراق» اليوم، الفصيل الحاكم الأقوى في نظام ما بعد صدام حسين. ونتيجة تاريخهم الذي صنعته وضعيّتهم كلاجئين في الجمهورية الإسلاميّة، لا يزال يُنظَر إليهم كرجال إيران الأقوياء في العراق.
ــ الحالة الباكستانيّة: كُتب الكثير عن نشوء حركة «طالبان باكستان» التي أفرزتها مسلسلات الحروب والاحتلالات والانقلابات الأفغانية منذ السبعينات من القرن الماضي، واللاجئين «المجاهدين» الذين أتت بهم تلك الأحداث إلى الجار الباكستاني. وبينما عجّت أفغانستان بالمقاتلين الإسلاميّين العرب، امتلأت الأراضي الباكستانية باللاجئين الأفغان، الذين باتوا اليوم، إلى جانب «إخوتهم في الدين» الباكستانيّين، الخطر الأبرز على النظام في إسلام أباد.
ــ الوضعية اللبنانية: لا يحتاج الأمر إلى عناء كبير للقول بأنّ أزمة اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان، كانت ولا تزال أحد العوامل المتفجّرة في هذا البلد.

... في الأردن وسوريا

يرى البعض، أنّ هناك موضوعاً واحداً على الأقلّ، يجب أن يجمع مصالح جميع الأطراف المرتبطة بالعراق من بعيد أو قريب، وهي قضيّة الحؤول دون تفجّر وضع العراقيّين اللاجئين في الدول التي تستضيفهم، بحيث يُضاف عنصر انعدام الاستقرار في هذه المنطقة الشديدة الحساسية.
وللمخاوف من مساهمة اللاجئين العراقيّين في تفجير أوضاع البلاد حيث يعيشون حالياً، أسباب موجبة، وخصوصاً في سوريا والأردن. فهاتان الدولتان، تستضيفان أعداداً هائلة من اللاجئين. الأردن يستقبل نحو 750 ألف لاجئ عراقي، بينما لا يزيد عديد سكّانه على 6 ملايين. وإلى جانب الشقّ الإنساني (اجتماعياً وصحياً) الصعب الذي يعيش فيه هؤلاء، والذي يُعدّ خطراً دائماً، هناك معضلة شديدة الحساسية، تتعلّق بتحالف المملكة مع الاحتلال، بينما الغالبية الشعبية العراقية الموجودة على أراضي الأردن، معادية للقوّات الأجنبية. ومع وجود تيار إسلامي متشدّد عريض في المملكة، راديكالي في مواقفه من سياسات واشنطن والأنظمة العربية المتحالفة معها، يصبح العراقيون الناقمون على الأميركيّين خطراً (ولو افتراضياً) على النظام الهاشمي، لذلك، تُتّخذ ترتيبات أمنية كثيفة داخل المناطق والمخيّمات التي تستضيف العراقيّين، تحسّباً لأي هبّة شعبيّة.
أمّا في سوريا، فالوضع لا يقلّ خطورة. فرغم الالتفاف الشعبي والرسمي الذي وجده العراقيّون في الشارع السوري منذ 2003، كان لا بدّ من أن تطفو المشاكل الناجمة عن وجود مليون ونصف أجنبي على السطح. وعن المعاملة السورية لهؤلاء، عبّر كبير منسّقي وزارة الخارجية الأميركية للّاجئين العراقيّين، جيمس فولي، قبل أيّام، عن «شكر» بلاده لسوريا «على تعاونها في ملف اللاجئين العراقيّين»، مشيراً إلى «سخاء» هذا البلد مع ضيوفه.
ومن بين الأسباب التي أدّت إلى استفحال الأزمات المتعدّدة التي سبّبها وفود هذا العدد الهائل من العراقيّين إلى الأراضي السورية، أنّ الأزمة الاقتصادية كبيرة جدّاً في هذا البلد. صحيح أنّ جزءاً لا بأس به من العراقيّين اللاجئين هم من أصحاب رؤوس الأموال، غير أنّ الغالبيّة ليست على هذه الحال، إذ تتألّف من فقراء وعمّال يدويّين في الزراعة والصناعة، والذين حلّوا في بعض القطاعات مكان اليد العاملة السورية.
وكان من بين نتائج لجوء هذا العدد من العراقيّين إلى سوريا، أن شكّلوا «مناطق عراقيّة داخل سوريا». حتّى أنّ مناطق كاملة من ضواحي دمشق، أبرزها جرمانا، باتت أحزمة فقر وبؤس تهدّد بانفجار اجتماعي يسهل تسييسه في سوريا التي تعاني بدورها من أزمات عضوية في كل من وضعها السياسي وتركيبتها الاجتماعيّة والطائفيّة.

معضلات العودة

منذ نحو أسبوعين، انشغلت عدسات كاميرات المصوّرين ووكالات الأنباء برصد حركة رئيس حكومة العراق نوري المالكي في شارع أبو النواس في العاصمة، يعلن أنّ حكومته قرّرت تحمّل جزء من تكاليف أسعار حجوزات العراقيّين الراغبين بالعودة إلى بلادهم. غير أنّ المعضلة تتخطّى التكفّل بتكاليف بطاقات العودة. إنّها تتعلّق أساساً بأسئلة صعبة، لا بدّ من السرعة في الإجابة عنها، إذا ما وُجِدَت الإرادة الجدّية في إعادة اللاجئين قبل أن ينفجر اللغم في المنطقة:
ــ ما هي الخطط التي تضعها الحكومة للتعويض عمّا خسره هؤلاء من منازل وأرزاق؟ قبل ذلك، ما هي خططها بشأن رأب الصدع الناشئ من جرّاء عمليات التهجير الطائفي الذي حصل في مناطق عديدة من المحافظات المختلطة طائفيّاً، وخصوصاً في أحياء العاصمة بغداد؟
ــ كيف ستكون نظرة العراقيّين الذين ظلّوا في البلاد في السنوات الأربع الماضية، إلى هؤلاء الذين «هربوا» ولم يعودوا سوى عندما هدأت الأحوال؟
ــ كيف سيتمّ تحاشي تحوّل هؤلاء العائدين إلى مصدر توتّر إضافي في العراق، من حيث إنهم سيعودون معبّئين سياسياً وطائفياً؟
ــ كيف سيتمّ دمج العائدين في مجتمعهم الأم، وخصوصاً أنّ عدداً كبيراً منهم في سوريا، هم من عائلات وأنصار النظام السابق؟
ــ ألن تخلق مشاكل اجتماعية واقتصادية جديدة ناجمة عن أنّ مناطقهم التي يعودون إليها، هي إمّا خالية من مقوّمات الحياة (مدارس، مستشفيات، مؤسّسات عامّة وأسواق تجارية...)، أو مجمّعات سكانية تغيّرت معالمها عمّا كانت عليه قبل الاحتلال، من حيث ولادة طبقة رأسمالية جديدة، لن يكون سهلاً عليها فتح الأبواب أمام مشاريع جديدة وافدة من وراء الحدود؟
باختصار، ما هي الضمانة بألّا تتحوّل عودة الملايين العراقيّين إلى بلادهم، من عامل مساعد سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً في نهضة العراق، إلى نذير شؤم يحمل معه عوامل تزيد من تعقيدات مهمّة بناء المواطنية في بلد يكفيه ما لديه من أزمات هوية ومواطنية وجوار؟
التشاؤم يلفّ الأجوبة عن هذه الأسئلة، فالجيش الأميركي كشف يوم الجمعة الماضي، أنّ الحكومة العراقيّة غير مستعدّة بتاتاً لاستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين. وقال العقيد بيل راب، مساعد الجنرال دايفيد بيترايوس، إنّ هذا الموضوع «يقلق إدارته جدّياً، وخصوصاً أنّ حكومة بغداد لا تبدو أنّها ستكون جاهزة لاستقبال أبنائها قريباً، والدليل أنها طلبت من الإدارة الأميركية إعداد برنامج لمساعدتها على استقبال اللاجئين».