strong>أرنست خوري
«الأمن قبل الاقتصاد» النظرية السند ونمو الدخل مصدر ارتياح وفقدان الرعاية الصحية أحد التداعيات

في كلّ مرّة يطلب فيها الرئيس جورج بوش من الكونغرس إقرار مبالغ إضافية لتمويل الحرب على العراق، ترتفع الأصوات «الديموقراطية» المعترضة لأسبوع أو اثنين، وتصمت بعدها وتُقَرّ المقتطعات الملحَقة بموازنة وزارة الدفاع، لا الموازنة العامّة السنوية للولايات المتّحدة. أمّا وقد وصل الرقم العام لتكلفة الحرب إلى مبلغ خيالي، فإنّ التساؤل بات مشروعاً عن كيفيّة تمويل أميركا لحروبها.
ثمّة ايديولوجيا اقتصاديّة «جديدة» في قلب المؤسّسة الأميركية الحاكمة، بدأت تظهر منذ أحداث 11 أيلول 2001، عنوانها «الأمن قبل الاقتصاد». وتقول إنّه في مواجهة المخاطر الاقتصادية للحروب، يجب السير قدماً، بمعنى عدم الخوف من التورّط في حروب جديدة ما دامت ستجلب الأمن الضروري للاستثمارات والاستهلاك.
ويستدلّ منظّرو هذه المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية، لتقوية حجّتهم، على أنّ «كوارث» اقتصادية جرت منذ عام 2000، لم تؤثّر على حركة الاستهلاك التي تمثّل مصدر نموّ الدخل القومي بنسبة الثلثين في الاقتصاد الأميركي، علماً أنّه منذ هذا العام، عرف الاقتصاد الأميركي نموّاً في هذا الدخل القومي الإجمالي. من أبرز هذه الأحداث، إفلاس شركة الطاقة «إنرون» عام 2001، كذلك هجمات 11 أيلول، واحتلال أفغانستان والعراق.
ويقول جمهوريّون فاعلون في إدارة بوش، لصحيفة «لا تريبون» الفرنسية في عددها في 28 أذار الماضي، إنّ الأموال لحرب العراق متوافرة دائماً، وإنّ هذه التكاليف التي تعدّت حتى الآن 10 أضعاف التقديرات الرسمية قبل 20 آذار 2003، لم ولن تؤثّر على الاقتصاد الأميركي الذي اكتسب «مناعة» ضدّ الحروب منذ مطلع القرن الماضي.
ويتابع هؤلاء أطروحتهم بحسم أنّ على الولايات المتّحدة «السير في مهمّتها حتّى النهاية». والمقصود هنا لا يقتصر على السير حتى النهاية في «الحرب على الإرهاب» في العراق وأفغانستان، بل أيضاً، ولمَ لا، «ضرب إيران وربّما سوريا» لأنهما تمثّلان، بحسب صقور الإدارة الأميركية، مصدر التهديد الأمني على العالم، وعلى الاقتصاد العالمي خصوصاً.
ومنذ فترة، أوردت صحيفة «غارديان» البريطانية تقريراً عن تكلفة الحرب على العراق، نسبت فيه إلى النائب السابق لرئيس البنك الدولي، جوزف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001، وإلى خبيرة الميزانيات في جامعة هارفارد ليندا بيلمز، تأكيدهما في دراسة أعدّاها، أنّ التكلفة الحقيقيّة للحرب على العراق ستصل إلى 2 تريليون دولار (ألفي مليار)، أي عشرة أضعاف التقديرات السابقة. أمّا المعدّل الوسطي للتكلفة اليومية في بلاد الرافدين، في المصاريف المباشرة وغير المباشرة، فهي تُقدَّر اليوم بنحو 300 مليون دولار. علماً بأنّ المستشار الاقتصادي السابق لبوش، لاري ليندزي، كان قد أشار عشية غزو العراق إلى أنّ تكلفة الحرب قد تصل إلى 200 مليار دولار أميركي.
وشملت التكلفة التي وردت في الدراسة الإنفاق التقليدي على الحرب، إضافةً إلى التكاليف التي تفرضها الرعاية المستمرّة لحالات الإصابة بإعاقات مزمنة، وتكاليف إعادة التسلّح وصيانة المعدّات... وأثر الحرب على الاقتصاد. وقال ستيغليتز، للصحيفة البريطانية، إن «التقديرات التي وردت في الدراسة تعدّ معتدلة، وقد تكون جملة التكلفة أكبر بكثير من الأرقام الواردة في الدراسة».
في المقابل، كانت أرقام لجنة الاقتصاد في الكونغرس أكثر تشاؤماً من ستيغليتز وبيلمز. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن تقرير لهذه اللجنة تقديره أنّ هذه التكلفة ستصل إلى 3.5 تريليون دولار.
أمام هذا الرقم الضخم، يصبح مفهوماً لماذا يعيش في ولاية نيويورك وحدها أكثر من مليون ونصف مليون أميركي فقير، ولماذا ليس هناك نظام رعاية صحيّة حكومية، ولماذا لم تُعِد الإدارة الأميركية إعمار ولاية نيو أورليانز التي دمّرها إعصار «كاترينا» عام 2005.
وتحوم حول سياسة تمويل إدارة بوش للحرب، ألغاز محيّرة؛ فمنذ مطلع القرن الماضي، كانت الولايات المتّحدة تعتمد سياسة رفع الضرائب من جهة (سياسة war bond)، وحصر النفقات الاجتماعية لتأمين الموارد المطلوبة. وهو ما حصل في الحرب العالمية الثانية وحرب كوريا وفيتنام. أمّا في الحالة العراقيّة والأفغانيّة، فجرى اعتماد سياسة أخرى التفافية تستند إلى الآتي: أوّلاً، بحسب القاعدة الكلاسيكية، حصر نفقات الرعاية الاجتماعية، و«نفخ» موازنة وزارة الدفاع. ومن ثمّ، وفي خلال العام المالي، تُطلَب مبالغ إضافيّة من دون احتسابها من ضمن العجز السنوي في الميزانية (والعجز الأميركي هو الأكبر في العالم).
ويعود سبب رفض بوش زيادة الضرائب لتمويل الحرب، بحسب الحاكم السابق للمصرف المركزي الاتحادي ألان غرينسبان في كتابه الأخير the age of turbulance، إلى حماية ثروات أصدقائه من أصحاب الاستثمارات والثروات الكبيرة. كما يتّهم غرينسبان (الجمهوري) إدارة بوش بخوض حرب العراق للسيطرة على احتياطات النفط في هذا البلد، وبالتالي يرى أنّ جزءاً من تكاليف الحرب يأتي من هذه العائدات النفطية. غير أنّ غرينسبان ينسى أن يشير إلى أنّ سياسة خفض الضرائب عن عائدات الشركات الكبيرة، كان بقرار صدر عام 2001، وصدّق عليه هو شخصيّاً.
تسير الحرب قدماً، ومعها تُنفَق المليارات، ومن غير المرجَّح أن تتوقّف خلال عهد بوش، بما أنّ الديموقراطيّين حريصون جدّاً على «تأمين جميع مستلزمات الجنود العاملين من أجل سلامتنا في العراق»، على حدّ تعبير عدد من زعماء الديموقراطيّين الذين لن يذهبوا بعيداً في منع الدفعات المتلاحقة التي يطلبها بوش للحرب.
حتّى بين جمهوريّي اليوم والأمس، فارق كبير في مقاربة تكاليف الحروب عموماً؛ فالرئيس الجمهوري الأسبق دوايت أيزنهاور قال مرّة: «كل بندقيّة تُصنَّع، وكل مدفع يطلق قذيفة، وكل صاروخ ينفجر، يمثّل في حقيقة الأمر سرقة بحقّ هؤلاء الجياع وأولئك الذين لا يملكون ثمن ثيابهم».

• الرئيس الجمهوري الأسبق دوايت أيزنهاور: «كل بندقيّة تُصنَّع، وكل مدفع يطلق قذيفة، وكل صاروخ ينفجر، يمثّل في حقيقة الأمر سرقة بحقّ هؤلاء الجياع وأولئك الذين لا يملكون ثمن ثيابهم».

• النتيجة اليوم: غياب نظام رعاية اجتماعية، 1.3 مليون فقير في نيويورك، ولاية نيو أورليانز لم يُعَد إعمارها بعد