strong>مي الصايغ
بعد نحو ست سنوات من إطاحة الآلة العسكرية الأميركية حركة «طالبان»، البدائية في إمكاناتها، وإرسائها لنظام بديل في كابول، وإجبارها زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن ومقاتليه على الاختباء في الكهوف، استعادت هذه الحركة الإسلامية المبادرة، وباشرت هجوماً معاكساً استعادت من خلاله أجزاء واسعة من أفغانستان

عادت الحرب التي تدور رحاها منذ 6 سنوات في أفغانستان لتتصدر الواجهة الإعلامية للأحداث، في خطوة ترافقت مع إعلان «طالبان» لاستراتيجية عرفت بخطة الربيع في مواجهة قوات التحالف الدولي، التي خولتها، بحسب تقرير صادر عن مركز «سينلس» الدولي، السيطرة الفعلية على 54 في المئة من البلاد.
ويؤكد التقرير نفسه أن «طالبان» «تمارس مقداراً كبيراً من السيطرة النفسية وتكتسب المزيد من الشرعية السياسية في عقول أبناء الشعب الأفغاني»، مشيراً إلى أن السؤال المطروح الآن ليس «هل ستعود طالبان إلى كابول؟»، لكن «متى وبأي صيغة؟».
ومعروف أن أمير حركة «طالبان»، الملا محمد عمر، أعلن، منذ اليوم الأول لبدء الغزو لأفغانستان في تشرين الثاني من عام 2001 أن الحرب على المحتلين ستكون حرب استنزاف طويلة الأمد.
حرب بدأت بعد تراجع مقاتلي الحركة إلى الجبال المحيطة بالمدن الأفغانية، وتصاعدت بشكل مستمر منذ بداية عام 2002 إلى اليوم، واتسعت رقعة عملياتها لتنذر بوضع أفغاني أكثر سوءاً.
وانتقلت استراتيجية «طالبان» من مرحلة حرب العصابات والكر والفر، إلى المواجهة المباشرة مع القوات الحكومية وقوات الاحتلال، وتبنَّت أساليب وتكتيكات عسكرية جديدة، بما فيها استخدام العبوات والاغتيالات والعمليات الانتحارية واختطاف الرهائن.
وقال القيادي في «طالبان»، أمير منطقة «غزني»، الملا محمد ناصر، في مقابلة مع مجلة «الصمود» التي تصدر عن «الجبهة الإعلامية لإمارة أفغانستان الإسلامية» عام 2006، إن «الاستراتيجية القتالية لطالبان اتسعت لتشمل العمليات الهجومية على مراكز وجود القوات الأجنبية وقوافلها في كابول وقندهار وغزني».
ويقرّ القادة العسكريون الأميركيون والبريطانيون بأن أفغانستان تشهد مرحلة هي الأشد عنفاً منذ إطاحة «طالبان»، وإن كانوا يحاولون إلقاء الضوء على الانتصارات الظرفية التي يحققونها من حين لآخر على الحركة.
واستفادت «طالبان» من تدهور شعبية الرئيس الأفغاني حميد قرضاي وحالة الغضب داخل مناطق القبائل على جانب الحدود الباكستانية، التي يسيطر عليها التيار الإسلامي، وتنامي مشاعر السخط فيها على التحالف الباكستاني ـــــ الأميركي، لإعادة تنظيم صفوفها رغم حملات التصفية التي تشنها القوات الأطلسية على قياداتها ومقاتليها.
ولا يمكن فصل صعود «طالبان» خلال العامين الأخيرين عن تفاعل عدد من العوامل المهمة، يتعلق بعضها بالحركة نفسها، ويتعلق البعض الآخر بالبيئة الداخلية الأفغانية وبالبيئة الإقليمية والدولية.
إذ إن حركة «طالبان» نجحت في بناء تحالفات مرنة وواسعة، فلا يمكن نسب جميع العمليات القتالية ضد القوات الأجنبية والحكومة الأفغانية إلى «طالبان» فقط. والتحليل الأكثر واقعية يشير إلى اضطلاع عدد من الفاعلين بتنفيذ تلك العمليات في إطار تحالف واسع مع حركة «طالبان»، يشمل كلاً من تنظيم «القاعدة» وبعض الأحزاب الإسلامية المعارضة، كالحزب الإسلامي (جناح قلب الدين حكمتيار)، وجناح مولوي يونس خالص، الذي أعلن الجهاد ضد القوات الأميركية عام 2003.
وأدى هذا التحالف الواسع دوراً مهماً في تعبئة المقاتلين الجدد في صفوف «طالبان» و«القاعدة». ورغم الخلافات العميقة بين أطرافه، إلا أن ما جمع بينهم هو معارضتهم الشديدة للوجود الأجنبي والحكومة ألافغانية.
وأشار وزير الدفاع الأفغاني الجنرال عبد الرحيم ورداك، في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» أخيراً، إلى أن «المقاتلين الأجانب في أفغانستان في تزايد مستمر، على الرغم من نفي حركة طالبان لوجود مقاتلين أجانب في البلاد». وقال «إن المقاتلين يتسللون إلى أفغانستان بأعداد أكبر من أي وقت مضى منذ إطاحة طالبان عبر الحدود الباكستانية».
وعلى مستوى البيئة الداخلية الأفغانية، يبدو أن لتواضع الإنجازات على صعيد عملية إعادة بناء الدولة دوراً رئيساً في اتساع النقمة على الحكم الأفغاني والقوات الدولية، والتوجّه مجدّداً نحو حركة «طالبان» وتحالفاتها؛ فالحكومة الأفغانية فشلت في نزع سلاح الميليشيات وتكريس شرعية الحكومة المركزية في مواجهة شرعيات أمراء الحروب، فيما تدهورت الأوضاع المعيشية بسبب ضعف المساعدات الاقتصادية الدولية، وانتشرت زراعة المخدرات، التي تستوعب نسبة مهمة من اليد العاملة، ولا سيما أن قيمة الإنتاج الأفغاني من المخدرات تبلغ نحو 95 في المئة من الإنتاج العالمي. ورغم مظاهر القطيعة التي تضمنها نظام ما بعد الحرب مع النظام السابق، أعيد البناء على أكتاف إثنية عانت التهميش خلال النظام السابق (تحالف الشمال) مقابل تهميش وضع القاعدة الاجتماعية الأساسية لنظام «طالبان» (البشتون)، ما جعل تمرّد «طالبان»، امتداداً للحرب الأهلية السابقة بين الحركة وتحالف الشمال.
وأخطأ قرضاي في إعادة عدد من رموز مرحلة ما قبل «طالبان» إلى السلطة في محاولة لاحتواء تلك القيادات، ما أدى إلى اتساع نطاق حالة السخط العام على أداء حكومته ومزيد من التعاطف مع الحركة، بالنظر إلى ارتباط تلك القيادات بمرحلة الحرب الأهلية وحال الفوضى الأمنية التي نجحت «طالبان» في القضاء عليها مع وصولها إلى السلطة.
وكان للبيئة الإقليمية دور مهم في صعود «طالبان»، إذ لا يمكن إغفال تأثير الأوضاع الداخلية في إقليمي بلوشستان ووزيرستان الباكستانيين، التي وفرت سياقاً مناسباً لتأمين الدعم للحركة في ضوء تراجع شعبية النظام الباكستاني فيهما، إضافة إلى فتور العلاقات الأفغانية ـــــ الباكستانية وتبادل التهم بشأن دعم الحكومة الأفغانية لجيش تحرير بلوشستان، والدعم الباكستاني لـ«طالبان».
وعلى المستوى الدولي، يشار إلى الخلاف الحاد داخل حلف شمال الاطلسي على الاستراتيجية الأنسب للتعامل مع «طالبان». ويمكن التمييز بين اتجاهين رئيسيين: الأول، يرى ضرورة التركيز على العمليات العسكرية مع توسيع نطاقها، وهو الاتجاه الذي تمثله الولايات المتحدة وبريطانيا. أما الاتجاه الثاني، فيدعو إلى المزج بين الأداة العسكرية إلى جانب أدوات أخرى سياسية واقتصادية، ويمثل هذا الاتجاه فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا.
كما يظهر التباين بين «الأطلسي» وباكستان في أسباب صعود «طالبان» وطريقة التعامل معها؛ فبينما تميل الولايات المتحدة والحلف إلى تحميل الرئيس برويز مشرف جزءاً من مسؤولية هذا الصعود بسبب مهادنته للقيادات القبلية في وزيرستان والأقاليم الحدودية، ترى باكستان في الداخل الأفغاني وسياسات «الأطلسي» عوامل أساسية لهذا التصاعد.