strong>أرنست خوري
«هجوم دبلوماسي». قد يكون هذا الوصف هو الأقرب للتعبير عن كثافة ونوعيّة الجولات المكّوكية لفريق عمل حزب العدالة والتنمية الحاكم. غير أنّ الأهمّ يبقى ملاحظة الوجهة الشرقيّة لهذه الزيارات، من باكستان ودول وسط آسيا إلى دول الخليج العربي وفلسطين المحتلة ولبنان وسوريا... فهل تخلّت أنقرة عن حلمها الأوروبي لمصلحة مجدها الضائع في الشرق؟

قد تُظهر القراءة الأولى للوجهة الشرقية لرحلات كل من الرئيس عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية علي باباجان، أنّها تندرج في سياق استبدال الحلم الأوروبي المتعثّر حتّى اليوم. لكنّ قراءة أكثر عمقاً تُظهر أنّ العكس قد يكون هو الصحيح، بمعنى أنّه يجب فهم تعميق تركيا لعلاقاتها الآسيوية والأوراسيّة كورقة قوّة لترشيحها إلى النادي الأوروبي، لا كبديل منه، وهو على الأقلّ ما يُجمع عليه عدد كبير من المسؤولين الأتراك والمحلّلين والمراقبين.
لقد كسر انتخاب غول في آب الماضي تقليداً دبلوماسياً سارت عليه الإدارات التركيّة طويلاً. تقليد كان يقوم على نوع من «الكبرياء العثماني» إزاء دول الشرق ووسط آسيا التي كانت بمعظمها خاضعة للسلطنة العثمانية.
كانت هذه العقليّة تقوم على نظريّة مفادها أنّ دعم ترشيح تركيا إلى النادي الأوروبي لا يستوي إلا بإيلاء الزيارات إلى عواصم القرار الأوروبية الأهمية القصوى.
ربما كان عنوان «خريطة طريق» طويلة الأمد، مناسباً لوصف التكتيك التركي الجديد إزاء العضوية الأوروبية. خريطة تبدو التفافية من ناحية أنها لا تعتمد الأسلوب القديم القائم على الضغط المكثَّف على الأوروبيّين ليقبلوا عضويتها. وبدلاً من ذلك، تعمل على تثبيت موقعها كرقم هو الأصعب في المنطقة، سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، بشكل ينتهي معه الموضوع بانقلاب في الأدوار، وتصبح معه عضويّتها مطلباً أوروبياً في الأساس، لا نتيجة استجداء أنقرة وتوسّلها على شكل ما سارت عليه الأمور خلال عهود الحكومات السابقة.
وخلال وجود باباجان في أثينا خلال الأسبوع الماضي، قال كلاماً معبّراً جداً عن نظرة بلاده تجاه العضوية الأوروبية، مذكّراً الأوروبيّين بأنّ «رفض قبولنا في الاتحاد سيكون خسارة كبيرة بالنسبة إليكم».
ولا شكّ أن أنقرة نجحت، حتى اليوم، في الرهان؛ أوّلاً، اقتصادها يشهد نموّاً سنويّاً يُقَدّر بـ 7 في المئة. وهذه النقطة تحمل بعداً أوروبيّاً من حيث إنّ هذا النموّ مغرٍ بالنسبة إلى الأوروبيّين الذين لا يرغبون باستقبال دولة مفلسة في صفوفهم.
ثانياً، تمكّنت تركيا في علاقاتها مع الأضداد في المنطقة من أن تحتلّ موقعاً مفاوضاً لا يملأه أي طرف آخر في الشرق الأوسط. فهي لا تزال تحتفظ بعلاقات ممتازة مع طهران وواشنطن، كما مع إسرائيل والعرب «غير المعتدلين». ويخوّلها هذا الدور أن تكون وسيطاً ممتازاً بالنسبة إلى الغرب الأوروبي الراغب بحلول سلميّة لأزمات المنطقة تجنّبه نتائج حروب، يدرك أنها ستكون كارثية عليه بالدرجة الأولى.
وتسود هذه الأيّام «نشوة نصر» عند عدد من المسؤولين الأتراك، عبّر عنها النائب المقرّب جداً من أردوغان، سوات كينيكليوغلو، في قوله إن «سياستنا الخارجية المتعدّدة الوجهات لا تندرج في سياسة الاستغناء عن حلمنا الأوروبي، لكن موقعنا في العالم تغيّر، إذ أصبحنا اللاعب الأقوى بنظر الجميع في منطقة وسط آسيا والشرق الأوسط».
بدوره، يرى الخبير في الشؤون التركية، هيو بوب، أنّ تركيا لا تزال قوّة إقليمية لا عالمية، «لكنها قوّة باتت مسموعة جدياً من كلّ الأطراف». ويعلّق بوب أهمية كبرى على قيام تركيا بنشر مهندسيها وأطبّائها ورجال أعمالها في دول المنطقة، كما يتوقّف عند الفائدة الكبرى التي باتت تظهر في تركيا من جرّاء دخول رؤوس الأموال الخليجية إليها بشكل غير مسبوق.
وفي السياق، ترى صحيفة «زمان» أنّ حاجات الطاقة تبقى الحاضر الغائب في ذهن المسؤولين الأتراك الساعين دوماً إلى جعل بلادهم دولة صناعية من المصاف الأوّل. وزيارة غول الأخيرة إلى تركمانستان وكازاخستان، الإمبراطوريّتين النفطيّتين، تحمل أوجهاً عديدة، أبرزها اللعب على التوتّر السائد بين روسيا وأوروبا حول عبور نفط أوروبا في الأراضي الروسية. وهكذا ترى «زمان» أنّ في زيارة غول الأخيرة إلى تركمانستان وكازاخستان «رسالة مفادها أنّ أنابيب النفط الموجودة أصلاً في تركيا قادرة على أن تؤدّي دور الأنابيب الروسية»، وهو ما يعفي أوروبا من تبعيّتها النفطية إزاء روسيا.
رغم كلّ هذا، يبقى الثابت أنّ أوروبا لا تزال أولويّة بالنسبة إلى أنقرة، وما الإنجازات التي حقّقتها وتسعى أنقرة لتحقيقها في الشرق الأوسط ووسط آسيا ومنطقة بحر قزوين، سوى أوراق تدعم الحلم التركي في الدخول إلى أوروبا من بابها العريض، وخصوصاً أنّ أكثر من 50 في المئة من التبادل التجاري الذي تجريه أنقرة هو مع الاتحاد الأوروبي.
حتّى إنّ بوب يرى أنّ قوّة تركيا الحالية في الشرق الأوسط ووسط آسيا، مستمدّة بالتحديد من «نافذتها الأوروبية، وفي حال فقدان هذه الصلة، ستفقد امتيازاتها الأخرى»... وهو ما يدركه غول تماماً، بعكس سلفه أحمد نجدت سيزر الذي نادراً ما غادر قصر شنقايا.