بغداد ـ زيد الزبيدي
رغم غياب أرقام رسميّة، يمكن توقّع أن يكون العراق ما بعد الاحتلال يحوي أعلى نسبة «مجانين» ومرضى نفسيّين. لذلك، فإنّ انتشار أقراص الأدوية المهدّئة، من صنف «الفاليوم» خصوصاً، أصبح من سمات يوميّات المواطن العراقي، حيث يرى المعنيّون بحقوق الإنسان أنّ كل الإحصائيات التي تقدّمها الجهات الحكومية وغير الحكومية، المحلية والدولية، عن ضحايا العنف، تفتقر إلى الدقّة، بل هي بعيدة كثيراً عن واقع الحال، لأنّ الذين يموتون نتيجة الأمراض النفسية، تجب إضافتهم إلى تلك الإحصائيات.
وفي رأي الاختصاصي بالأمراض النفسية الدكتور أحمد حسن العبيدي، فإنّ عدد مرضاه تضاعف أكثر من عشر مرّات في سنوات ما بعد الاحتلال، وسبب ذلك لا يعود فقط إلى هجرة معظم الأطباء الاختصاصيّين، بل لكثرة أعداد المصابين بالأمراض والصدمات النفسية. ويعترف العبيدي بأنّه أحد ضحايا الأمراض النفسيّة، «فعندما أخرج من البيت إلى العيادة في شارع السعدون في بغداد، أتناول قرص الفاليوم المهدّئ، وكذلك عند العودة إلى المنزل، لكثرة ما أشاهده وفظاعته، وما يمكن أن أشاهده من جثث ودماء وأشلاء متناثرة، ومن حواجز لا تحترم أحداً، ومواكب لمسؤولين، تطلق النيران مكان أجهزة التنبيه في السيارات».
صحيح أنّ هذه الحالة العصبيّة المرضيّة هي عامّة في بلاد الرافدين، غير أنّ بغداد تبقى النموذج الأوضح لهذه المأساة. وتدلّ مشاهدات مراسل «الأخبار» في بغداد على أنّ الأطبّاء باتوا يمنعون المصابين بالأمراض القلبية، حتى وإن كانت بسيطة، من مغادرة منازلهم، بعدما أودت الحوادث المفاجئة بحياة الكثيرين منهم.
وتطال هذه الحالة الصحافيّين العراقيين، الذين وصف أحدهم وضعه بالقول «أنا أيضاً لكثرة متابعتي للأخبار، لا أستطيع النوم ليلاً دون تناول قرص الفاليوم!». كما أنّ «زبائن» الفاليوم تطال شريحة ممّن تستفزّ أعصابهم حتى «الحالات البسيطة» مثل الكشف عن سرقات بمليارات الدولارات، أو الكشف عن كون معظم المسؤولين في الدرجات الأولى والثانية والثالثة، وحتى الضبّاط في الجيش والشرطة، والنوّاب في البرلمان، يشغلون مناصبهم بوثائق دراسيّة وعلميّة مزورة... على نسق ما أظهرته آخر فضيحة في الأسبوع الماضي. ومعروف أنّ الحبوب المهدّئة والمخدّرة منتشرة بكثرة، وهي تفوق الأدوية الأخرى في الصيدليات العراقية، وليس هناك أي رقابة على تداولها، وتُباع من دون وصفة طبية، بينما كان تداولها ممنوعاً في السابق، إلّا بوصفة طبية. والسبب في ذلك، يعود ليس فقط إلى الحوادث المفزعة، بل أيضاً إلى التحريم المطلَق من جانب الأحزاب الدينية والميليشيات للمشروبات الكحولية، ما يدفع الشباب إلى تناول خليط الحبوب لغرض «السكر بالمخدّر».
وتنتشر حاليّاً في بغداد ما تُسمّى حالات «الكبسلة» لدى الشباب (مشتقّة من الكبسولة)، والغريب في الموضوع أنّ تداولها يكثر لدى أفراد الحراسات ومفارز ونقاط السيطرة، إذ ليس هناك نصّ ديني يحرّمها، فيما يؤدّي تناولها من جانب هؤلاء المتحسّبين والمتحفّزين للأحداث الطارئة والمستهدفين بحكم عملهم، إلى الاسترخاء العصبي، الذي سرعان ما ينقلب إلى حالات عدوانية مع أول رصاصة تُطلَق في الشارع، ما يؤدّي إلى الكثير من حالات القتل تحت تأثير المخدّر.
ويبقى الـ«فاليوم» في العراق ماركة مسجَّلة للهدوء المؤقّت بسعر لا يتجاوز دولاراً واحداً لعلبة فيها 40 حبّة، هدوء كثيراً ما ينتهي بأن يتحوّل إلى أبدي عند من يتعاطونه.