strong>حسن شقراني
التقويم الاستخباري الأميركي الأخير لـ«النشاط النووي» الإيراني، وقضيّة «أشرطة التعذيب» (التي سجّلت فيها الاستخبارات الأميركيّة جلسات تحقيق بأساليب مثيرة للجدل في إطار «الحرب على الإرهاب») ، يُبرزان تطوّراً على صعيدين: الأوّل هو أنّ الوكالات الـ16 التي أصدرت التقويم (وبينها وكالة الاستخبارات المركزيّة «سي آي إيه» ووكالة الاستخبارت الدفاعيّة «دي آي إيه») نمّت قدراتها بشكل ملحوظ منذ فضيحة أسلحة الدمار الشامل العراقيّة (الحجّة الأساسية التي استخدمت لغزو العراق). والثاني هو أنّ المجمع الاستخباري في الولايات المتحدة أعاد سيطرته على دائرته بعيداً عن الضغوط السياسيّة، لينتج استقلاليّة رآها الأميركيّون دليلاً على «عودة الشفافيّة»، فيما استغلّتها الجمهوريّة الإسلاميّة للترويج لشفافيّة تصريحاتها عن برنامجها النووي.
ما يمكن معالجته (بعيداً عن تأثيرات خفايا عالم الاستخبارات) في ما يخصّ التجسّس الأميركي على نشاط إيران ومدى تأثّره بانتقال الإدارة السياسيّة، يبدأ زمنياً منذ عام 1989 حين كشفت الاستخبارات الإيرانيّة شبكة جواسيس في بلادها تديرها خليّة للـ«سي آي إيه» متمركزة في ألمانيا ومسمّاة «طفران» (المصطلح هجين من: طهران وفرانكفورت). ومنذ ذلك الحين، انتقلت إدارة التجسّس على من ينعت الولايات المتّحدة بـ«الشيطان الأكبر» إلى لوس أنجليس في ولاية كاليفورنيا. وتركّزت العمليّات على نشر عملاء في عواصم (غالبيّتها أوروبيّة) يسافر إليها بانتظام مسؤولون مرتدّون عن النظام في طهران.
نقطة التحوّل الأولى كانت عام 2001، لدى تسلّم إدارة الرئيس جورج بوش زمام المبادرة و«إعادة التشكيلات». فحينها، كان حوالى 100 ضابط ومحلّل من الـ«سي آي إيه» يتابعون ملفّ إيران. وارتأى المحافظون الجدد تعديل الأولويّات، وتوجيه التركيز نحو العراق، ما قلّص الاهتمام بطموحات الجمهوريّة الإسلاميّة إلى برنامج يضمّ أقلّ من 12 ضابطاً.
في ذلك الوقت، كان جورج تينيت هو الآمر في الوكالة (تعرّض للعديد من الانتقادات وخضع لجلسات مكثّفة لتقديم شهادته في التقارير الفاشلة عن أسلحة الدمار الشاملة التي «كان يراكمها» الرئيس العراقي حينها صدّام حسين). والواضح أنّ الوكالة خضعت لإعادة هيكلة نوعيّة في ما بعد، لم تتمّ مع خلافة بورتر غروس لتينيت، بل مع برنامج الإصلاح الذي اعتمده (بنجاح على ما يبدو) مايكل هايدن (جنرال في سلاح الجوّ) الذي تسلّم رئاسة الوكالة منذ عام ونصف العام. وهنا برز التحوّل الثاني. فالنتيجة التي وصل إليها التقرير الأخير لمجمع الاستخبارات قالت بوضوح إن إيران أوقفت برنامجها النووي (التسليحي) في خريف عام 2003، على وقع الضغوط الدوليّة. نتيجة ناقضت إلى حدّ كبير ما توصّل إليه تقرير مماثل عام 2005 (العام الذي تسلّم فيه تينيت القيادة). فما التغيير الذي حدث لتنقلب المعايير وتنقلب الأمور رأساً على عقب في مكتب نائب الرئيس، ديك تشيني؟ الجواب: برنامج «بالوعة الدماغ».
هذا البرنامج الذي أطلقته الـ«سي آي إيه» (طبعاً بأوامر من البيت الأبيض)، والذي كان سرياً قبل أن يتحدّث عنه مسؤولون في الوكالة في الآونة الأخيرة، تضمّن عمليّات مكثّفة داخل إيران وفي عواصم العالم لتحويل عناصر فاعلين في البرنامج النووي الإيراني إلى «مرتدّين»، تبقى هويّاتهم مجهولة للرأي العام. ويمكن إيجاد في قضيّة اختفاء الجنرال الإيراني السابق علي رضا أصغري في تركيا في أوّل العام الجاري، خيط يدلّ على ذلك النشاط (الوكالة نفت أكثر من مرّة أيّ علاقة لجواسيسها في تلك الحادثة).
النتيجة التي توصّل إليها التقرير إيجابيّة من الناحيّة التقنيّة (أي الناحية الموضوعيّة) إذ إنّها جرّدت التقويم الاستخباري من أيّ تأثيرات سياسيّة، وخصوصاً أنّ خطاب بوش في كيفيّة التعاطي مع إيران، تصاعدت وتيرته وحدّته إلى حد التلويح بحرب عالميّة ثالثة. غير أنّ تداعياتها على هيكليّة القيادة، وعلاقة المركز السياسي (البيت الأبيض) والأطراف (في هذه الحالة الـ«سي آي إيه») توضح مدى الهامش الذي يفصل بوش عن جواسيسه في عالم تزداد فيه رتبة التكنولوجيا في مواجهة البيروقراطيّة.
وهنا يمكن الانتقال إلى القضيّة الثانية؛ فالأشرطة التي وثّقت التحقيق باستخدام التعذيب (بينها تقنيّة الإغراق) مع قياديّين في تنظيم «القاعدة»، الأوّل هو أبو زبيدة، فيما يُعتقد أنّ الثاني هو رمزي بن الشيبة، لم يكن من الممكن إتلافها (في عالم ذي احترام مثالي للهيكليّة) من دون أمر من بوش (وهو نفى أيّ علم له بها!) وربّما كان قد أمر بالفعل بذلك. كما قد يكون أمر برفع السريّة عن تقرير المجمع الاستخباري (رغم ما لنتائجه من وقع سيّئ على حجج الإدارة في معالجة الملفّ الإيراني) لأنّه اقتنع بأنّ الأمر سينفضح على أيّ حال.
رئيس الاستخبارات الوطنيّة الأميركيّة، مايك ماكونيل، قال أمس: «ساعدوني في التجسّس على القاعدة» كي يحصل على تمديد لمفاعيل برنامج «حماية أميركا» الذي تنتهي صلاحيّاته في شباط المقبل. وعندما يرى المواطن الأميركي شفافيّة في تقارير الاستخبارات (مثل التقرير الأخير) يرى الجاسوس بطلاً... فيما يراه بوش متمرّداً.